الخميس، 24 أكتوبر 2019

مذكرات خرّيجة 3.

عرفت الآن شعور سمك السردين وهو موضوع واحد فوق الثاني والخامس والعاشر ومضغوط في قنينة ضيقة، وعرفت تمامًا شعور البرتقالة وهي تُعصَر، وشعور الليمونة حين يمصها طفل فتقسم أن لم يبق شيء فيها ويزيد هو إصرارًا على استخراج آخر قطرة فيها. الخرّيج يجرب مشاعر الجمادات حين يتعدى كل مشاعر الإنسان المتاحة. 

أتساءل: هل هذه حياة أم حرب؟ أو بمعنى أدق؛ هل هذه دراسة أم حرب؟ ترد أفنان: بل حرب. أقول: صدقتِ ألف مرة. ما كان شيء يستنزف الروح والجسد والنفس كهذه الحرب الضروس؛ كالمذاكرة المتواصلة دون هدنة للاختبارين المتتاليين، أصل لمرحلة لا أريد المذاكرة فيها رغم أنني في أمس الحاجة إليها، يوجعني ألا أنال في هذه المادة المفضلة ما يرضيني وهي سهلة فقط لأنني مضغوطة أو متعبة، ويسوءني أن أتعب أو أمل الدرب، أو أن أستلقي في وسط المعركة. أستجمع قواي لأقرأ الشرائح وتمر الكلمات أمام مرآي وإن لم تدخل عقلي. لا شك أن هذا الكدح سيظهر ولو غير جلي، لا ريب أن الله يجزيني ويشكرني ويحن عليّ، لا شك أن الله يرحمني وهو يراني متعبة ومثقلة ومتوترة وخائفة، لا شك أنه يهدئ روعي حين أسجد له، لا عبث في أن يرسل لي من يستمع إلى تلاوتي وأنا في غمرة الخوف، ولا درب مهما كثرت الدروب إلا إليه. الحمدلله على لطفه وأمنه، الحمدلله على الحب والرعاية التي يحيطنا بها على شكل أناس هم أسناد، على أمي التي تترقب طلتي وتغمرني حبًا وطعامًا إن رأتني، على رفقتي الذين ما انحنيت إلا قوموني، وما ضعفت إلا أسندوني، وما سقطت إلا رفعوني، على أهل القرآن الذين نشاطرهم قلوبنا ونمسح وهن الحياة بآيات نتلوها معًا، على حبك، وإحسانك، وحفظك، وتوفيقك. 

تحتل وقتي الجامعة وأشغالها حتى أختفي عن العالم أجمع، تقول أروى أنها نسيت أن لديها زوجة أخ من شحّ اللقاءات؛ هذا وشقتي جدارها ملاصق جدار بيتهم، وتقول لي أمي ألف مرة أنها تشتاق إليّ لكنها تقدر ظروفي وتذكرني أن لم يبق شيء وأنني قطعت الدرب أكثره فلا ينبغي أن أحيد الآن أو أضعف. جاراتي لا أراهن أبدًا وأعترف أنني أسوأ جارة لجارتي التي تسكن فوقي منذ 3 أشهر ولم أقابلها ولا أتعرف عليها ولا لمرة، هل لي بهدنة تمنحني الجامعة بها فرصة لأعيد التعرف على من حولي ولألملم ما بقي من حياة اجتماعية؟

أخرج من أزمة الاختبارات الفترية الأولى لهذا الفصل بثياب مرقعة وحياة أكثر ترقيعًا، أخرج وأنا آخذ آخر أنفاسي التي لولا أن أخرجني الله منها لانقطعَت. أخرج من المعركة بأقل قدر استطعته من الخسائر، وبروح قوية مهما وهن الجسد وانهار. أحتاج إلى هدنة وألا أرى كتب الجامعة مذاكرةً لثلاثة أيام. انتهت المعركة، أعود إلى حياتي وأحاول ترتيبها وإعادة صياغتها وإحياء ما مات منها، أحتفل بإنهاء الكتاب الذي طالما نازعتني نفسي إليه فأدبتها بأن تذاكر؛ فإن أنهت كافأتها بقراءة فُصَيل واحد منه. أحتفل بصديقاتي، وبحضن الشقة، وبزيارة إلى مكتبة مع رفيقاتي؛ الزيارة التي أنعشت روحي وردت كل مبعثر إلى استواء. كل شيء في حياتي بعد هذه المعركة قابل للترتيب ولإعادته إلى موضعه إلا النوم الذي لم يرضَ عن التقطّع والأرق وعدم الكفاية بدلًا، فمهما طالت ساعات نومي قلّت راحتي منه واكتفائي ووُجِد ما ينغصه ولو لم يكن موجودًا واقعيًا. أصل إلى يوم الأربعاء لأجدني منهارة حد أنني لا أستطيع النهوض من فراشي وكأن وهن الحمى يغزوني، أستيقظ بعد طول صراع لأجرّني إلى الجامعة، إقراء فاطم يرد الروح رغم هلاك الجسد، مختبر الفطريات الذي أتوق له وأجد فيه الشغف لم يكن اليوم المختبر الذي أشع فيه حماسًا وتوقدًا ويضيق بنا الدكتور للجلبة التي نحدثها أنا وصديقاتي ونحن نعمل ونتحدث ونضحك، بل كنت منطفئة أعمل بصمت، وأتجاهل مزاح مروة، وأجرب إعداد الشريحة مرة أو مرتين ثم لا ألتفت ولا أهتم إن لم تتضح تلك الشريحة بعد أن ناديت الدكتور ولم يستجب، لم أكن تلك أنا التي أحب، لكنني كنت أشعر بجسدي وهو يتآكل من شدة الإرهاق، ننهي المختبر وأنسى ولّاعتي التي أحفظها وأحملها معي فيه، وأرحل. ألاقي الرفيقة التي تحمل عني كثيرًا مما لا أطيقه فتعود الحياة في شراييني، أتفقد الأوضاع، وأرتحل قافلة إلى الكلية. أدخل المختبر وأنا أنتظر الأربعاء أسبوعًا كاملًا حتى أعمل فيه لمشروع التخرج، فتقول لي الدكتورة -الأم- أن البسي قفازاتك وباشري العمل فورًا فلدينا عينات كثيرة اليوم، أتعلثم، وأقول أنني جئت لأعتذر مع بالغ الحزن عن العمل اليوم لأن كل هذا فوق طاقتي، تتفهم وتحتويني، وتقول ارجعي إلى البيت وارتاحي وتمطرني بالدعاء. يلطف الله بي ويمسح على قلبي بها وإن أخطأت وأسأت، ويسخر لي لا المعلمة الموجهة، بل الأم والأخت والسند، أجرّني، وأرحل. يسوءني أن أنهي يومي قبل أن ينتهي وأن أفوت كل شيء لنفسي، ولكنني أفعل. فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم، وحسبي أنه العليم.

يأتي الثلاثاء الذي أنتظره بفارغ الصبر لأهرب فيه إلى البيت منذ الثانية، أسميه هربًا من الواقع الذي يجتاحني، وهو النعيم الذي لا أرجو له زوالًا. آوي إلى شقتي وأحضنها بقلبي، أسترخي قليلًا ثم أباشر العمل والمذاكرة دون توانٍ. أعيش في الجامعة وأعود إلى البيت زائرةً للنوم ثم شد الرحال مرة ثانية للجامعة. وإن كان جدولي فارغًا في لحظة وهو أغلبه ممتلئ؛ قد لا يحظو من يواعدني في تلك اللحظة بلقاء لأن أعمال المختبر تطرأ فأضطر الذهاب إلى القسم إلى أجل غير مسمى.

 رغم الغرق والتعب، أعشق انغماسي اللذيذ هذا وأود لو لا ينتهي. أحب فكرة أنني خريجة وتستشيرني بنات التخصص اللاتي يصغرنني فأعرف كيف أجيبهن لأنني جربت كل ما يسألن عنه، أحب الدهشة المرسومة على وجهي عند كل معلومة جديدة؛ تلك التي لم تتغير ولم تخفت منذ سنتي الأولى، أحب أنني مميزة وواعية لتفاصيل تخصصي، وأنني أميز الخلية النباتية رغم أنني رأيتها فجأة وسط الفطريات، وأنني أعرف البكتيريا وأحفظها كأبناء إخوتي، وأنني ملمة بالتقنيات التي نستخدمها، وأعرف كيف أحسب تركيز الحمض النووي ونقاوته وكيف نخفف المحاليل ونعد التراكيز اللازمة، وأعشق تمرسي ومهارتي في استخدام أكثر آلة نعمل عليها في كل المختبرات؛ تلك التي تحتاج إلى مهارة لضبط استخدامها. أحب فوق هذا كله أنني غدوت أكثر نضجًا وقدرة على تحمل الضغط والعمل ولو كان جسدي يصرخ من التعب. وعلمك ما لم تكن تعلم، وكان فضل الله عليك عظيمًا. 

حين تشتكي إحداهن من الصغار في البيت الذين لا يدعونها تذاكر كما ينبغي، أذكّرها بأنني كنت أقول هذا عن هبة، ثم الآن وقتي أوسع للمذاكرة دون مقاطعة، لكن حياتي فارغة ويسرع إليّ التعب وتسوء نفسيتي وأضيق. حين أتعب، أكتفي بالنظرِ إلى صغيريّ صورهما أو مقاطعهما دون فرصة لمداعبة ولا مشاكسة ولا متنفس.

تطول بنا الساعات دهورًا حينًا، وتمر الساعة كثانية حينًا، وفي كل هذا تعب ونصب، وصبر ومصابرة وجهاد أعظم. من لم يركب الأهوال لم ينل المطالب، من لم يمر بهذه المرحلة الأصعب لن يخرج مثمرًا. نحن اخترنا هذا الطريق الشاق ونعلم أنه شاق، ونحن نشقه شقًا بالحب والشغف، وبأكتاف الأصدقاء. الله يصنعنا على عينه في كل خطوة، والله العليم خير معين. يا رب تخرجًا يترك أثرًا، وإثمارًا ونفعًا قريبًا. 

السبت، 5 أكتوبر 2019

مذكرات حاجّة (صغيرة) 9

إنها ليلة الثالث من صفر، مرّ شهران منذ الليلة الأولى في مكة؛ تلك الليلة التي لم تكن الأولى في حياتي في مكة، لكنها كانت الأولى في الوقت نفسه. مر شهران منذ تلك الأيام الذهبية في حياتي، الأيام التي تشعر أنك وصلت فيها، وأنك على العتبة، وأن الباب أوشك أن يفتح لك، وأنك لم تكن أقرب إلى الله من هذه اللحظات، في هذا المكان الأطهر، والمشعر الأسمى. في هذه الليلة بالذات وأنا أسترجع الأحداث، لا أصدق، وأدرك كم رسّخ هذا في قلبي من معاني لن يدركها أحد، وكم مد الله لي جسورًا لأزدلف، ولم يبق بيني وبينه أي سبب للحب والوصل إلا قدّره. كيف أشكر؟

مرّ الحج وانتهت مواقيته، عاد كل الحجاج إلى أهليهم، واجهوا النكسة الصحية التي بعد الحج، ثم أعاد الله لهم عافيتهم، انغمسوا في أعمالهم وعادوا إلى حياتهم، كل في فلك يسبحون. انتهى الحج وولّى والحجاج دعوا بالقبول ثم عادوا إلى غمرة حياتهم، ولكن أنا؛ انغمست في دنياي، وفي زحمة الجامعة وسنة التخرج، ولكن قلبي لم يزل في الحج، ولم يزل يرجو لقاء ميمونة وهناء لأنعم بصحبتهما مرة واحدة زيادة في الحرم. أنغمس في الحياة ولكن قلبي بين مكة ومنى، وبين عرفة والمزدلفة، ولا يزال يطوف ولا تكفيه سبعة أشواط. تعصرني الحياة، ومهما انعصرت لا أنهزم لأنني لم أعد كالسابق، عدت مزنة المرباة بالحج، وكلما عصرتني الحياة، تأملت صورتي وأنا جالسة صوب الكعبة والشمس تحرقني لكن اللحظة لا تدع مجالًا لأي شيء أن يحرقني، فالدفء كل الدفء، والامتنان كل الامتنان. 

لم ينقض الحج ويولِّ، بل بقي كل شيء فينا عدا الأماكن والأزمان. منى الرحم الذي اتسع لنا جميعًا، ويتسع أكثر؛ المكان الذي لم تكن شعيرة فيها سوى التعايش والسلام مع خلق الله؛ الأمر الذي يجعلني كل يوم أتسع أكثر مهما ضقت، وألا أضيق على أحد مهما ضقت، وأن أحاول أن أكون سلامًا على قلب كل أحد، وعلى قلب هذه الأمة. عرفة؛ تلك البقعة التي تتنزل فيها رحمات الله تؤكد لي أنه قريب مجيب سميع بصير، وأنه لطيف خبير. تلك البقعة تدنيني في كل لحظة، أتذكر إرهاقي ونعاسي في عرفة ومقاومتي له بكل الأشكال، وأنا أختبر إرهاقي وتعبي في جهاد العلم، وجهاد تدريب المختبرات التي لا أريد منها شيئًا سوى أن أكون ثمرة ذات نفع. عرفة التي تربيني ألا أدع أي حواجز بيني وبين الله، وأن مهما بلغت من الحزن فلا شيء يعادل حزن غروب عرفة وخوفها ورجائها. أما النفير فمشهد من الآخرة عشته لأدرك أن هذا كله لن يستمر طويلًا، وأن الموعد الحقيقي لم يأتِ بعد، وأن ما قبل ذاك الموعد يحدد الجزع أو الأمن فيه، ويعود هلع الموقف كلما غفلت. أما مزدلفة، فتلك الليلة التي نمنا فيها على الحصى وسط الدخان والضجيج والأضواء، لكن شعورها كان شعورًا من الجنة، كلما أتذكرها وأذكر نعيمها رغم أن واقعها سيء، أتذكر أن سوء الحياة مهما بلغ، فامتثالي لأمر الله الذي لا أعرف معناه ولا حكمته نعيم لا يستطيع عقلي إدراكه. الطواف والسعي يذكرانني دائمًا أن حياتي تتمحور حول ركائز إن حدت عنها تهت، وأنها تسير على سنن وترتبط بعظماء كانوا رغم ضعفهم أممًا، وحقق الله المعجزات لئلا يتركهم وحدهم، وليحقق أهدافًا عظامًا رسموها هم. منى الرحم الذي يؤوينا ما اقتربنا ونأينا يربينا على العطاء والتنازل دون رجاء مقابل. كيف أضيع وقتي بعد الحج وقد رباني على هذا كله؟ 

استيقظت هذا الصباح على صوت الرعد، فززت من فراشي إلى النافذة؛ إنه المطر من بعد ما قنطنا. كل الناس مستبشرون، وأنا أرى المطر هنا وأعيش اللحظة، لكنني أعيشها لأنها تعيدني إلى لحظات أخرى هي الأكثر رسوخًا. كل مطر يذكرني بالمطر الذي هطل وانهمر وغمر، ثم جفت منه الأرض؛ لكن قلبي لم يجف منه أبدًا. كل مطر يذكرني بغوث الله لمن جاءه قاصدًا محبًا مضحيًا، كل مطر يذكرني أن الله لا يترك يدك ولا قلبك أبدًا ما لم تقرر أن تفلت أنت. كل مطر يذكرني بالاستجابة، وبالقرب، وباللطف، وبالحنان، وبالرعاية. مطر عرفة؛ المكان القاحل ذو الشوك والجدب لم يخضرّ بعد المطر، لكن اخضرّ ملايين الحجاج وتبرعموا. حين تؤذيك الشمس والحر وتصبر طالبًا من الله الغوث، ثم دون أي سحابة عابرة بل في حر عز الظهيرة والشمس حارقة يعلنون فجأة أن المطر قادم، وما هي لحظات حتى ينهمر، ولا ينهمر دقيقة ويكف، بل يصب صبًا لا يترك لأي مخلوق مجالًا لئلا يكتفي، ولسوف يعطيك ربك، ولا يعطيك فقط، بل يغمرك بالرضا من كثر العطاء. يربيني الله ألا أضع احتمالًا ألا يتحقق المستحيل، وأن أطمئن ما دمت قد قلت له كل شيء وهو العليم، القريب، المجيب. يربيني الحج أن أخضع لله وأقصده وحده، ثم لا أقلق بشأن العطايا التي أرجوها، ولا حتى الرزايا التي يساعدني هو على اجتيازها، ويقويني بها ويصنعني على عينه بحب. 

يعلمني الحج أن العالم ليس مكانًا مثاليًا للعيش، أعرف أنها دنيا وأنها لن تكون مثالية أبدًا، ولكن واجب الإنسان أن يكون خليفة لله في الأرض، مصلحًا معمرًا، ويتضح جليًا خلال الحج أن الإنسان لا يفعل هذا دائمًا، ولا يحيا لأجل ما خلقه الله له، بل ربما ينسى أن الله خلقه لهذا أساسًا. يعلمني الحج أن كثيرًا من المسلمين أتوا إلى البقاع الطاهرة لا تطهيرًا بل تلويثًا، ولم يأتوا تشريفًا بل تدنيسًا، ربما هؤلاء لا يدركون أنهم يدنسون، ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا، أو ربما لا يعرفون أن ما يفعلونه تدنيس، بل يعرفون أن زيارة المكان والتلبية والرقي الروحي هو التشريف والترقي والتقرب. الحج يعلمني أن الناس يرمون أكوامًا من القمامة وبقايا الطعام والدنس والرجس، بينما الله يعلمنا أن أدنى شعب الإيمان إماطة الأذى عن الطريق، فماذا عن إلقاء الأذى في الطريق في أطهر بقعة وأعظم منسك والناس قصدوا الإيمان؟ الحج يعلمني أن الأمة لا زالت واهنة، وأنها تحتاج إلي لآخذ بيدها ولا أوهن مهما تعبت أو تأذيت، وأن الأمة تحتاج إلى إعادة تربية على فكر نوراني. الحج ينبهني أننا لسنا بخير مهما ارتقت روحانياتنا وبلغت أرواحنا أبواب السماء، وأن هذه الروحانيات والسمو فيها لا ينبغي أن يعمينا عن الواقع؛ عن أن الدين المعاملة، وأن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، وأن مثل المؤمن كالنخلة؛ لا تأكل إلا طيبًا ولا تضع إلا طيبًا، وأن عباد الرحمن يمشون على الأرض هونًا، وأن أصحاب الجنات والنعيم كانوا في أهلهم مشفقين، ولم تغنهم روحانياتهم بالقرب من الله عن الإشفاق على أهلهم الذين هم جزء منهم، وعلى أمتهم؛ تلك التي يقض مضجعهم أرقها، ويوهنهم وهنها.

يعلمني الحج أن أكون أشد الناس تسليمًا لله ولو لم أفهم المغزى، وأنني ما إن أسلّم حتى يجود هو بعطاياه، وأجزل العطايا روحانيات تشبه الجنة في النعيم واللذة. يعلمني أن أكون سلامًا، وأن أتعايش وأتغاضى وأتقبل وأوسع صدري للناس كل الناس. يعلمني الحج ألا أتردد في حث الخطى إن كنت أعلم أنه سيوصلني إلى ما يريد الله، وما أريد. يعلمني الحج أن أوسّع آفاقي، ولله خزائن السماوات والأرض. يعلمني الحج أن القرآن هو الرفيق الأول، وأنه القوة وقت الضعف، والسلوى وقت الشدة، والفرج وقت الضيق. يعلمني الحج أن الآخرة أقرب إلي من أي شيء أظنه قريبًا، ويعيشني أبسط مشاهد الآخرة في الدنيا قبل الآخرة لأنيب، وأرى الآخرة أمامي بيقين مهما شغلتني الحياة. يعلمني الحج أن أعد لغد ما ينبغي أن أعد، وأنا أفعل ما يسرني أن ألقى، وأن آخذ احتياطاتي لأن فرائضي قد لا تكفيني، وبضع حصيات زائدة ستنفعني. يعلمني الحج ألا أبالي إن كنت في العراء أو على الحصى أو مختنقة بالدخان، ما دامت اللذة في الطريق لا في الوصول، وما دام النعيم ينطوي داخل الشقاء، وما دمت أسلّم لله وإن كنت لا أفهم. يعلمني الحج أن أسارع ولا أتوانى لأشق طريقي، فكم من مبادرة في لحظة فتحت لنا أبوابًا ما حسبناها ستفتح، ولو تقاعست في تلك اللحظة لضاعت علي أنوار فلتُّها من بين يديّ. يعلمني الحج ألا أنسى كل من مشوا على الدرب قبلي، وأن أستلهم منهم لمزيد قوة، وأن أكون على قدر مكانتي إعمارًا وإحسانًا. يعلمني الحج ألا أفلت يدي ولا قلبي عن الركائز التي وضعها الله لي، وأن تكون دومًا نصب عينيّ ولو جرفتني دوامات الطائفين في الحياة، أو جرّتني عواصف الدنيا. يعلمني الحج أن أسعى حثيثًا ولو كنت لا أرى النتائج الآن، وأن الدعاء سلاحي الأقوى، وأن أتكئ بكل ثقلي عليه. يعلمني الحج أن أمشي إن تعبت، وأهرول إن نشطت، المهم ألا أقف، ولو وقفت فوقوفي راحة بسيطة لا تطول. يعلمني الحج أن ألقي بكل آلامي وإصاباتي وتعبي جانبًا لأحارب بقوة. يعلمني الحج أن أجاهد، والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين. يعلمني الحج أنني لا بد سأصل بإذن الله مهما طال المسير، ولكن القضية تكمن في ألا أوهن لما أصابني في سبيل الله ولا أضعف ولا أستكين. يعلمني الحج أن أعيش السلام والسكينة دون تعليقهما بشيء، وأن أمتنّ لكل شيء، وأن أكون شكورة على أبسط نعمة، وألا أفقد دهشتي لئلا أنطفئ، وأن أفرح بعطايا الله وأتعرض لرحماته. يعلمني الحج أن لا بأس أن أرمي عني كل ما يدنسني، أو يؤذيني، وأن أتخلص من أي حبل أو حتى خيط يسوقني إلى غير رضا الله. يعلمني الحج ويلقنني أن الشيطان عدو فاتخذيه عدوًا، يذكرني دومًا أن أتخذ موقفًا صارمًا تجاهه وألا أنسى ولو للحظة ما يريد هو مني. يعلمني الحج ألا أكون لنفسي، بل أكون للناس خيرًا ونفعًا، وأن خير الناس أنفعهم للناس، وأن من فرج على مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب القيامة، وأن القوة تنبع من أناس قلوبهم على بعضها، يحرص أحدهم على صاحبه أكثر مما يحرص على نفسه وأهله. يعلمني الحج أن الحياة نعيم لو ضحينا وأعطينا وتماسكنا وتقوينا. يعلمني الحج أنك لا شيء دون مؤازر، وأنك قد تكون بهيمة هائمة أو أضل لو لم يمددك الله بصحبة تنتشلك، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض. لا زال الحج يعلمني رغم أنه انقضى وولى، ولا زلت أصغي وأمتثل. 

يعلمني الحج ألا أنسى. ما كان الحج قصدًا لبضع أيام وولى، بل كان قصدًا للحياة بأسرها. ما كان الحج درسًا عابرًا يُنسى، ولا إملاءً في ورق يتمزق بعد أمد، ولا حتى تجربة عابرة تغطي عليها آلاف التجارب بعدها، بل الحج رسوخ في أعماقك يعلمك من أنت ومن الله وماذا يجب عليك في هذه الحياة. ما كان الحج سلامًا هناك وخرابًا هنا، ولا كان الحج طاعة هناك ومعاصٍ هنا. الحج تربية تزرعها فيك لبضع أيام ثم لا تنفك عنك مهما حاولت تغيير تصرفاتك بعدها لأنها رسخت فيك ووافقت فطرتك. الحج تربية لا لك وحدك، بل للأمة جميعًا أن تنتظم، وتتحمل، وتتقوى، وتجاهد، وتكون كالجسد الواحد، وألا تفلت ما إن تمسكت به لن تضل أبدًا. في الحج رأيت إبراهيم وهو يرفع القواعد من البيت، ورأيت هاجر وهي تسعى، ورأيت محمدًا ﷺ وهو يخطب خطبة الوداع ليوصيك بكل شيء؛ لا بروحك فقط. رأيته وهو يقول: "ألا وإني فرطكم على الحوض وأكاثر بكم الأمم فلا تسودوا وجهي ألا وإني مستنقذ أناسا ومستنقذ مني أناس فأقول يا رب أصيحابي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك". فما أنت فاعل؟ 

امتنّ الله عليك ملايين المرات في حياتك، وكانت منّته العظمى حجة عمرك. طفت فيها بكل درس يمكن أن تمر عليه في حياتك، كان كل شيء هنا يذكرك بقاعدة من قواعد عقيدتك وحياتك، هل كنت ترى كل هذا يا صاحبي؟ أم اكتفيت بأداء ما عليك لتركن إلى الراحة بعدها؟ إن لم ترَ شيئًا من هذا كله؛ فربما أنت لن ترى عداوة الشيطان ولا قرب الله ولا تجليه في كل شيء، وربما لا تكون الآخرة يقينًا عندك. هل تشعر أنك بخير وأنت تفعل هذا؟

حجي بداية عمر جديد، عمر صار فيه قلبي مرهفًا، يلوم نفسه على الهمسة والحركة والسكنة والكلمة، ويقول لنفسه: ماذا لو لم تكن هذه ترضي الله وأنت تفعلينها وقد حججتِ؟ أليس عارًا عليك؟ حجي بداية عمر قد أدوس على نفسي فيه إن أمضيت لحظة لم تكن ذات جدوى لي ولا لمن حولي ولا لأمتي. حجي رسّخ فيّ أنني الخليفة المصطفاة التي خلقت أَمَة لله سيدة للكون؛ لتعمّر ولا تهدم وتصلح ولا تفسد. حجي ربّاني وأنا صغيرة لأكبر على صلاح أستمده من الله وحده. ماذا عنك؟



_________________________________

شكرًا لله أن أتم علي هذه السلسلة، ثم شكرًا لكتاب "طوفان محمد" الذي استمددت كثيرًا مما كتبته منه، وشكرًا لكل من قرأ وكانت كلماته دافعًا لأن أكتب أكثر، وشكرًا لماريا الصاحبة التي ما تركتني إلا وأكتب جزءًا جديدًا وأمدتني بكل ما أحتاج إليه وزجرتني حين أردت التوقف، شكرًا لهناء وميمونة على صحبتهما الطيبة في الرحلة الأسمى، وشكرًا لحملة الحج المبرور التي ما قصرت فينا ومهدت لنا كل السبل لحج أيسر، وشكرًا لكل من شجع ودعا. وأعتذر عن تأخر الأجزاء عن ميعادها وما ذاك إلا لأن للنص مخاضًا لا يعلمه إلا الله.
ختمت السلسلة، لكن ربما يضاف جزء أخير وصايا لمن أراد الحج. والحمدلله.