الثلاثاء، 19 مارس 2019

مذكرات طالبة جامعية 14

كانت النية من مذكرة اليوم استشعار لألطاف الله المحيطة -ولا أظنني سأغفل عن هذا-، ولكن يبدو أن النهاية ستكون مختلفة عن البداية اختلافًا شاسعًا؛ شاسعًا جدًا.

بعد يوم طويل جدًا أمس انتهى بافتتاح الملتقى الأحيائي الخامس الذي عملنا طويلًا لأجله، وبعد أجواء وتجهيزات كانت أشبه بتجهيزات العيد من جو جامعي، ارتد صدى الملتقى إلينا، وكان طعم لذيذ للإنجاز وللرسالة التي هي أكبر من مجرد ورق واختبارات ومظاهر، كان يوم على شدة إرهاقه سعيدًا. أنهيت الاختبارات الثقيلة الأولى كلها، وهنا استراحة محارب. نمت بعد منتصف الليل وأنا أكاد أموت من التعب، صليت الفجر، نمت نومًا اضطراريًا، لم أستيقظ إلا التاسعة وتسع وعشرون دقيقة. طارت عني محاضرة الصباح الأولى، سأتأخر على المحاضرة الثانية (لذا أفضل ألا أحضرها بكرامتي)، سأحضر الثالثة. رغم هلعي وحسرتي على تفويت المحاضرات التي لم يسجل لي فيها غياب؛ إلا أنني استشعرت لطف الله المحيط وأنا أستيقظ مرتاحة الجسد والبال وقد أخذت ما يسد حاجة أي إنسان سويّ إلى النوم. يوم مبارك بإذن الله. 

تجهزت وخرجت سريعًا لأوصل عصير الفراولة إلى المعرض حتى يقيم طلاب المدارس المضافين لدينا تجارب عليه، لطف الله وحده جعلني أوقف سيارتي البارحة باتجاه معاكس للذي اعتدت أن أوقفها عليه، لتقع عيني مباشرة على الإطار الإمامي المنفشّ. لطف الله وحده جعلني أدرك لئلا أقع في مصيبة أكبر، لجأت إلى جارتي ليغير لي زوجها الإطار، ثم اخترت أن أجلس معها إلى أن ينتهي. لطف الله وحده ساقني إليها وصغارها يبثون الحياة، ثم تأتي جارتنا الجديدة التي مضى على انتقالها بجانبنا شهر ولقيت كل الجارات وتعرفت عليهن، ولكنني الجارة السيئة التي لا تجد وقتًا لأحد. كان لطف الله حاضرًا وأنا أتعرف عليها وتعطيني من إفطارها وهي لا تعلم أنني لم آكل شيئًا للفطور، ولكن اللطيف يعلم. 

تأخرت على المحاضرة، حاولت التقاط ما يمكنني فهمه، بعد ساعتين اختباري الذي لم أذاكر له، أفتح مجموعة فأجد أن دورة الخط العربي التي أحلم بها تقام اليوم في هذا الوقت تحديدًا وأن العدد اكتمل دون تسجيلي لأنني كنت غارقة في الاختبارات الكثيرة دون أن أفتح المحادثات، لكن علي المذاكرة على أي حال، دست على نفسي، ذاكرت، انسكبت السكينة عليّ صبًا وأنا أشهد الصلاة تقام والمصلون يأتون من كل فج عميق ليشهدوا الجماعة، أنهي مذاكرتي سريعًا لألحق بدورة الخط التي اكتمل تسجيلها ولكن فؤادي ينازعني إليها وأنا أتساءل بفضول عن مقدمة الدورة، أركض إليها لأجد مقدمة الدورة إستبرق التي كان أحد أحلام حياتي أن تعلمني الخط، أحشر نفسي بينهن وهن يرحبن بي ولا يشعرنني أنني دخيلة أو غريبة، ونسيبة تعطيني قلمها لأكتب به لأنهم لم يحضروا أقلامًا زيادة على عددهم، رغم إخفاقي الذريع في تطوير خطي والكتابة الصحيحة وأنا أرى صديقاتي يتطورن، كانت أحلامي تتحقق وأنا أتدرب وأحاول على الأقل. خرجت مع نور لنتحدث عن حياتنا سريعًا ثم نركض لأصلي وألحق على الاختبار، كان لطيفًا دافئًا كالدكتورة سيرين، خرجت مع هيا لمرور سريع على معرض الملتقى ومقابلة للشركة الطلابية التي كنت أتواصل معها لاستضافتها في المعرض، وأشعل الشغف. من اللطف الذي كان اليوم، أن كلما قابلتني فتاة من فتيات التخصص أخبرتني أن دكتور المحاضرة الثانية افتقدني وكانت يسأل عني حين لم يجد من يسأله في المحاضرة، جيد أن أحدًا ما استشعر غيابي على الأقل. أجابته عائشة: "دكتور تعبانة"، قال لها: من الاختبار؟ قالت له: "لا، من الحياة.." آه لو تدري عائشة كم كانت صادقة!




يأتي الإثنين الذي تحرّقت شوقًا إليه منذ أسبوع مضى كأنه قرن، أفر إلى البيت لأستمد من أمي وأبي حنانًا يقويني على الحياة، تقر عيني بأبي بعد أسبوعين من الغياب، ولا أجد نبع الحنان الذي يرويني من جفاف الحياة. هنا تبدأ انكساراتي كلها في البروز إلى أن تطغى. 

هل كان علينا أن نتخلى عن الحياة حين اخترنا هذا الدرب الصعب؟ هل كنا ملزمين ونحن نستلذ مشقته وعذابه أن نسحب من أرواحنا قوتَها وأن نتجرع مر الموت وعلقمه؟ هل كان لزامًا علينا أن ننسى الحياة، ننسى أشكال أهالينا، لا نقابل جيراننا، ننسحب من كل ألوان الحياة حتى نستطيع لملمة ما تبعثر من جهودنا؟

كنت أقول أن الحياة مهما كانت صعبة مرة فنحن نقوى عليها دائمًا إن كنا محاطين بأحبابنا، أما إن كنا لا نجد وقتًا حتى لنرتوي من أحبابنا، فهنا أهلًا ومرحبًا بكل كسر وحطام تريد الحياة أن تحيلنا إليه!

ما إن انتهينا من الاختبارات الثقيلة الأولى وقلت آن أوان استراحة المحارب؛ أتت الاختبارات القصيرة الكثيرة المتتالية وذكرنا المعلمون بمواعيد تسليم التقارير والعروض المتتالية قريبًا، وتراكمت علينا المذاكرة أصلًا. هل أبالغ حين أقول أنني أشتاق للحياة؟ أشتاق أن أشبع من أمي دون أن أجلس ساعة معها وأنا أراقب الوقت لأن عليّ مهام كثيرة لأنجزها. أشتاق أهلي، أشتاق أن أزور صديقاتي اللاتي أصبحن أمهات بعيدًا عني وأنا لا أجد وقتًا لإعطائهن مساحة من الفرح ورؤية صغارهن. 

تشابهت الأيام، فالجمعة تشبه الأحد وتشبه الأربعاء. لم يعد لنهاية الأسبوع طعم خاص نتحرق شوقًا إليه، كل الأيام رمادية. لا أحباب نراهم خارج إطار الجامعة، ولا أهل ولا جيران. تنزل الأمطار، تتجمع العائلات، ونحن نذاكر ونعمل للجامعة. يا رب الرضا بالسعي والقطاف.  

بعيدًا عن كل شيء؛ يظل الله يمنحنا القوة دائمًا وأبدًا، يظل يرسل إلينا أشياء صغيرة تزرع الحياة فينا كلما ذبلنا.  يظل الله يبعث لي دعوات أمي وإيمانها الراسخ اليقيني فيّ، وهي تحثني على المذاكرة مهما كان، وهي تقول بكل فخر تلك الكلمة التي لم تلقِ لها بالًا لكنها زرعت فيّ الشغف أبدًا "مُزنة نفعتنا في حياتنا يوم دخلت كلية العلوم وتخصصت الأحياء". 

ما بين ألف تضارب وتضاد وتعاكس أكمن أنا. ما بين الصباح السعيد المنشرح والليل غارق في الدموع والأسى، وما بين القوة التي أظهرها كل يوم عند الناس، والضعف الذي أنكمش فيه وأنا أعلن تعبي. يا رب، أنت اللطيف الجبار الشكور، وأنت تعلم الباقي يا رب. :")

الاثنين، 11 مارس 2019

مذكرات طالبة جامعية 13

هل أستطيع أن أقول شيئًا بعيدًا عن بطني الذي يشتكي ويصرخ؟ أم أنا ملزمة بالانصياع إليه؟ كيف أفهمه أنني لا أجد له في أرجاء الجامعة طعامًا إلا مغمورًا بالزيت أو سكريًا أو نشويًا أو ذا دجاج لا يوجد ما يثبت أنه حلال؟ كيف أفهمه ألا يغتر بكونه في الجامعة الحكومية الوحيدة في عمان، وأن يجوع أو يأكل بصمت؟ لا أدري.

رغم التعب والألم؛ يظل العلم الهدف السامي الذي يستحق بذل كل شيء في سبيله. وإن كنا نحترق؛ إلا أننا نخرج عطرًا يصنعنا وينضجنا. خيبة وراء خيبة، كبوة بعد كبوة، ننهض أقوى، أصلب، وأكفأ. في كل يوم في الجامعة تجد نفسك أنضج من الذي سبقه، ومع كل فصل ومادة تجد نفسك أفهم وأوسع مدارك. أؤمن أن المعدل ليس كل شيء؛ بل هو فهمك وفكرك. 

لكل الأحلام والشغف والطموح، لكل الأشخاص الذين نقابلهم فنقتبس من علمهم أملًا في أن نكون مثلهم، لكل صديق ربّت على أكتافنا، حزن لحزننا، فرح لفرحتنا، وقف معنا، سند ظهورنا، ذكرنا بهدفنا الأسمى، وزجرنا حين ضعفنا، لكل من شاركنا همومنا وأحلامنا، لمن تقاسمنا معه الطعام والحب، لمن شد أزرنا وشاركنا أمرنا، لكل الأماكن التي تحوي ألف ذكرى، لكل الأشخاص الذين لم نعد نراهم في أماكن كانت تجمعنا، لكن الأثر والحب باقٍ، لكل موظف مخلص، لكل معلم مربٍ مرشد ملهم، لكل عامل وعاملة يلهموننا الأمل والكفاح، لكل شجرة وطير وزهرة، ألف سلام. شكرًا لأنكم جزء من حياتي. 

مرحلة الجامعة هي التي تصقل الإنسان حتى تظهره على حقيقته. هي التي يخلع الشاب فيها الثياب التي ألبسه إياها أبوه، وتسريحة الشعر التي اعتنت بها أمه، ويضع عنه الكتب التي لقنه إياها معلمه؛ ليخرج بعقلية تمثله هو لا غير. هي المرحلة التي رأينا فيها مظهر الإنسان ينقلب في بضع سنين ليصبح حسب قناعته دون تأثير خارجي؛ فإما خير وإما شر. هذه المرحلة هي التي كان يقول عنها د. سيف أنك إن أردت أن تتبنى فكرة فيها فابحث واسأل وحاور وتفكّر سنين ثم ارسخ على مبدأ وفكرة. هذه المرحلة التي نحاول أن نستغلها في الفهم والعلم والقراءة والمحاورة لنفهم، ولنبني رؤانا الخاصة للعالم. هي المرحلة التي تزيدني نضجًا يومًا بعد آخر، وتقلب أفكاري يمنة ويسرة لأرسخ على مبدأ. 

للمدة الذهبية في الحياة؛ سلام، وبعد، أحاول أن أستغلك وأن أبذل كل طاقاتي في أنشطة ومحاضرات ومرح بعيدًا عن الدراسة، أحاول أن أحصّل الحد الأقصى من الخبرة والفهم، وألا أضيع في هذا دون أن أعتني بنفسي وأهلي وعقلي وجسدي. أجاهد لئلا أخرج منك إلا مستنفذة لكل ما يمكنني فعله فيك. مهما قسوتِ وأتعبتِ، أعلم أنك الذهبية في الحياة. سلام. 

الثلاثاء، 5 مارس 2019

مذكرات طالبة جامعية 12

لا يمكنك الهرب من التعب والثقل الهائل الملقى على عاتقك؛ بل على قلبك. لا يمكنك إنكار ثقل قلبك وأنت تجرجر خطاك رائحًا آتيًا، لا يمكنك إخفاء لمعة عينيك الواهنتين وأنت تزعم أنك بخير وقوة. لن تهرب. بل ستقف، ستعترف أنك مثقل وأنك ضعيف، ستبكي، ستتكلم، ستدعو، ثم تغدو خفيفًا تخطو خطو غزال أو رفرفة فراشة.

مَهلَكة هي الحياة التي تصلي فيها سريعًا دون وعي لما تقول حتى تدرك الاختبار التالي أو المحاضرة التي بدأت وأنت تتأخر عليها لأنك لا تجد وقتًا لركعتين بعدما انتهت المحاضرة السابقة متأخرة متجاهلًا جوعك القارص، مستنزفة تلك التي لا تمنحك ساعة في حضن أبويك، ولا أخرى تلاعب صغارك، ولا غيرها لقراءة كلمتين من كتاب غير كتب الجامعة، ما قيمة الحياة التي أعيشها؟ أين أنا ومن أكون؟ إلى أين سأصل؟ لا أدري. 

ليست المعضلة في عدم الإنجاز بسبب ضعف جسدي أو وعكة صحية طارئة، بل المعضلة المشكلة عدم الإنجاز بسبب الضعف النفسي والوهن. ليس ثمة شعور أسوأ من ذاك الذي يقول لك: أنت متعب، فليكن ما يكون؛ دعك من كل شيء واسترخِ. تعبنا، والطريق الطويل لم يزل في بدايته.. لكننا تعبنا. 

لم يكن يومًا مجال للجندي أن يستلقي في وسط المعركة. هكذا أقول لي؛ لكن ماذا لو قلت أننا لسنا في معركة وأن لي حرية الاستلقاء؟ أخشى الدهس والتقتيل؛ لذلك سأنهض رغم التعب، وسأقاوم. 

تعلمني الحياة ألا أستسلم ولا أضعف مهما جبنت، وأن أقاوم رغم كل شيء. بعد أسبوع مضغوط؛ أصررت ألا أنسحب من مسابقة القرآن الكريم في الجامعة مثلما فعلت لثلاث سنوات مضين (كل سنيّ الجامعة)؛ أصررت أن أبذل ما أستطيع ثم أسمّع لئلا أستسلم. لم يكن تسميعي جيدًا أبدًا، لكنني انتصرت بقوة الله وعونه ولم أنسحب. يكفيني هذا انتصارًا. 

من أخف وأسعد لحظات حياتي تلك التي أختلي فيها في سيارتي المغلقة كل منافذها علي، وأشغل شيئًا أحبه وأغني معه بأعلى صوت دون جمهور؛ ذاك الغناء الذي هو أقرب إلى الصراخ منه إلى الغناء، لكنه يشفي. ماذا رممني اليوم أكثر من صراخي مع الأغنية "واللهِ لا نُهزَم!"؟ 

عيوني تغمض نفسها من الإرهاق المتراكب لأيام، ولكنني أذاكر. كنت أخادع حين قلت بعد أيام طوال وألف اختبار أنني أحتاج إلى النوم أكثر ما أحتاج. الحقيقة أنني أحتاج إلى نفسي. أحتاج أن أستعيد توازني في الحياة وهدفي وشغفي، أحتاج أهلي، وصديقاتي، وكتبي، وحياتي دون أن يمزقني هم اختبار ولا يزاحم وقتي مشروع ولا تقرير ولا مذاكرة. هل يمكن للحياة منحي وقتًا مستقطعًا أستعيد فيه نفسي وأهلي وبيتي وسكينتي وسلامي؟

تخف الأيام الأثقل بالأصدقاء الأخف، بالجمال الذي يسخره الله لنا خصيصًا لنتخفف ولنعلم أن لا بأس علينا رغم كل شيء. تلك التي تقول لي أنها عهدتني قوية وأنها تستمد قوتها مني، وتلك الأخرى التي تتدبر معي آيات نزلت في عمق المعركة؛ لم تدرِيا وهما تلقيان بهذه الكلمات وتمران أنهما زرعتا شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. يسخر الله لنا القوة في دعاء الأمهات وأحضان الأصدقاء وضحكاتهم ونكاتهم. يسوق لنا الخير سوقًا ويصنعنا على عينه رغم كل شيء. يا رب الصناعة والرعاية.