الاثنين، 23 سبتمبر 2019

مذكّرات خرّيجة 2.

يمضي الأسبوع ثقيلًا يدكّني وهو يمشي، لا رحمة لمن لم ينم جيدًا الليلة الفائتة، ولا للمريض ولا للمتعب ولا للمثقل قلبه، لا رحمة ولا هدنة حتى؛ لأن الحياة ليست حضن أمي. لا يمهلك أحد لتستوعب أنك وصلت الشاطئ حتى تجد نفسك تغرق في وسط البحر دون أي سبيل للنجدة أو النجاة، لا رجوع ولا إمهال، أنقذ نفسك إن أردت، وإلا فعمق البحر جائع ويرجو التهامك، وهناك كثير غيرك يريدون دخول هذا البحر. جاءت ريح عاصف، وجاءك موج من كل مكان، وأحيط بك، فجِد لك مخرجًا!

تتشبث بشيء من أمل فلا تجد، لا تدري أتعالج روحك أم ترقع قلبك المثقوب أم تواجه كل صفعات الحياة وحدك؟ أمضي مثقلة أجرّني جرًّا إلى محاضرة محاضرة، بعضها أثقال فوق أثقالي، وبعضها إلهام توشك أن تطير فيه. أحاول أن أقنعني أن أستمر وأتقوى فلا أجد ما ينجح في دفعي، أجرّني وأجرّ خطاي، وكثرة الجرّ قاتلة. أحاول أن أقتبس من شمس الصباح التي لا أحب مجيئها لأنني لم ألحق على أخذ كفايتي من النوم، وأحاول أن آخذ شيئًا من خضرة الشجرة أو حمرة الورد، أحاول فلا أزداد إلا ذبولًا. كيف أقسم نفسي وأنا أنتظر الإجازة لأنجز ثم لا أبقى فيها فارغة لثانية واحدة ثم أجد ليلة الأحد وصلت دون أن أنجز ولو نصف قائمة أعمالي المتراكمة؟ كيف ينتظر الناس نهاية الأسبوع ليعوضوا نوم أسبوع شاق ويكون نومي أنا فيها أسوأ من الأسبوع كله؟ كيف أتخفف وأنا لا أزيد إلا ثقلًا؟ أنى لكم هذا؟

يبدأ الأسبوع بمحاضرات يكاد رأسي يسقط فيها من شدة الإرهاق، أحارب إلى آخر رمق مني وأنا أستنفد قواي. أعود إلى البيت عند الغروب كالعادة، وأنا أفكر فيما أفعل وما أترك، أصل فأحدثني أنني لم أعد صغيرة ولم تعد الأعمال البسيطة تليق بي، كبرت وصرت خرّيجة، لم يعد النوم الذي هو من أبسط حقوقي بعد يوم طويل دوامه متصل من الصبح إلى المغرب؛ لم يعد ممكنًا، لم يعد الاتكاء على الأحباب مجديًا إلا للبكاء، أما الواقع الذي لن يصلحه غيري فهو اصطفاء من الله ليصنعني. هل أقبله؟ أخطط لمذاكرة المحاضرة الأولى فقط من كتاب الفطريات؛ المادة التي أدخل فيها متاهة ذات مرايا. ما إن أعزم على البدء حتى يأخذ الله بيدي ويخفف عني بإزاحة الصداع الذي لا يتركني وحدي ليل نهار، ويبارك في وقتي فأنهي مذاكرة كل ما درسناه. أنهي يومي بإنجازات منزلية، وأنام متأخرة أكثر من اللازم. أستيقظ نشيطة، أبكّر، أحضر المحاضرة الثقيلة بكل شغف وحب، أفهم كل حرف يقوله، ولا أكاد أشعر بالوقت. يمدنا الله بألطافه دائمًا وينتشلنا، ويبارك لنا الحياة.

وسط الضغوطات الدراسية والنفسية والاجتماعية، وفي اللحظة التي أقول فيها أنني أشعر أنني تونة معلبة مضغوطة، لا شيء يوسّعني مثل القرآن وأهله، لا شيء يملك هذه القدرات السحرية العجيبة في تهوين كل عسير، وتحلية كل مر، وتقوية كل ضعف، ومباركة كل شرارة وإحالتها نورًا. حلقات المجازات والإقراء، الإقراء الذي أهرب إليه من ضيق الدنيا، وحلقة النادي التي أصررت على إدخالها في الفراغ النادر في جدولي المكتظ، الجدول الذي مهما امتلأ يبقى فارغًا دون القرآن. يا رب البركة والفتح والنصر والنور والهدى. 

يبقى الشغف قائدنا وسائقنا الأول، ويبقى المعلم الملهم قبلتنا وقدسنا؛ ذاك الذي يعلمك لتتقن لا لتجتنب الفشل، ويعلمك كيف تفكر وكيف تعيش وكيف ترفع الأمة لا كيف تحفظ القدر الأكبر. حين تنسدّ الأبواب ويقول العالم أن لا أمل ولا وظائف ولا شيء سوى ضياع العمر والجهد والوقت، تنفتح أبواب أخرى تغمرك شغفًا وأنت لم تدخلها بعد. تثبت لك الحياة أنك إن جاهدت وتركت راحتك جانبًا لتقدم شيئًا للناس وللعلم، تفتح لك هي ألف باب لتختار أيها تسلك، وتمنحك فرصًا كثيرة تعرض أنت عنها ثم تعيّرها هي. تثبت لنا الحياة أن المجاهدين هم أصحاب الشرف دائمًا، وأنهم لو انطفؤوا ينطفئ ألف نور وتغلق أبواب شتى، وتثبت لك الحياة أنك إن كنت مستعدًا للمواجهة، كانت هي أكثر استعدادًا منك لتكريمك، لكنك كثيرًا ما لا تستعد! 

الجمعة، 20 سبتمبر 2019

أيام خفيفة ثقيلة 5 (حين يزهر قلبي).

لا يعلم أحد أبدًا ذلك الشعور الملتوي في الفؤاد، ولا يرى أحد ذاك النتوء الزائد في القلب. تجمد الكفين وارتجافهما، تنمل القدمين، وهن الرجلين حتى لا تحمل جسدي، وذلك العقل الغائب أبدًا في محاضراتي مهما حاولت الحضور. لا يفهم أحد لا الأسباب ولا الدوافع ولا النتائج، ولا ماهية هذا كله. لا منطق يستطيع تفسير كيف تموت الأم إن كبا طفلها، ولا كيف تركض وراءه وهو يركلها. ولا أنا حتى أستطيع أن أفهم كيف يحدث هذا كله، وكيف يخرج الأمر عن إرادتي ولو أقسمت ألا تكون هذه المرة مثل المرة الفائتة، فتكون تشبهها، وأشد. كيف أكون مصدر رعب وأمان في الوقت نفسه؟ لا أدري، الله وحده يملك كل هذا ويعلمه جيدًا. 

بذرة لم أكن الزارعة الأولى لها، وربما لست الأخيرة. بذرة مضى عليها رعيل يبذرون ويسمدون ويسقون ويبذلون كل جهدهم لتخرج نضرة كاملة غير منقوصة. حين وصلت البذور عندي وقد مر عليها كل هذا، كان بعضها قد تبرعم، وبعضها يابس، وبعضها لم يُسقَ منذ زمن، وبعضها أسقيه مرارًا دون أن أراه يربو، وبعضها مخضرّ. كان علي أن أعطي كل ذي حق حقه، وألا أزيد في ريّ إحداهن لئلا تغرق. كان علي أن أعامل كل بذرة كما ينبغي وهن جميعًا مغروسات في أصيص ضيق واحد، وحين كنت أبخس إحداهن ماءها، كان يجب علي أن آخذها على انفراد بعدها لأفهم، أراعي، أنزع عنها قشرها الذي يؤذيها، أدعّمها وأقويها، ثم أعيدها إلى الأصيص. كان يجب علي ألا أستاء ولا أتعب، لكنني كنت أستاء وأتعب. كان يجب علي أن أنظر إلى نهاية النفق وأملي معلق بالله، فكنت أنظر تارة، وتارة يعميني الظلام. كان يجب علي أن أسقي وأروي ولو جففت أنا؛ لأنني أوقن أن السقي لا يضيع، وإن كنت لا أرى أغلب البراعم. كان علي أن أدرك وأتيقن أنني مجرد ساقٍ، وأن الزارع هو الله، وأن البذرة إن لم تفلق نفسها لتتبرعم فلا تستطيع قوى العالم كلها فلقها، وأن هناك بذورًا تحتاج مدة أطول لتنمو، أطول من طاقة صبري التي أوسّعها كل يوم؛ لأن الله لم يأذن بعد لها بالاخضرار ولا الإزهار، وستزهر ولو بعد حين بإذن الله.

لحظات الإحباط واليأس والغضب والحزن والأرق والغرق في التعب والحريق الذي يشويني دون أن أستطيع تداركه، وتلك الساعات الطوال التي أفتتها وتفتتني لأصل إلى حلٍّ لمشكلة هذه أو تلك، ما بين تفكير انفرادي يكاد يقودني إلى الجنون، وبين الفضفضة والبكاء للمجازات اللاتي ما ضاقت صدورهن عليّ أبدًا. كل كلمة في ذاك المقام كانت تحدث فرقًا، كل تصرف حسن كان يبني، وكل ما سواه كان يهدم. مرّت تلك الأيام سريعة، ووصل هذا اليوم الذي سيبين بعض ما كان، وبعض لن يبين؛ لأنه ليس الوقت المناسب بعد. 

كان الخوف من إيذاء بذوري طاغيًا، لكن رغم كل ذاك، كنت في اليوم الواحد أقطّع وأبتّر حتى تكون نضرة، كانت البذور تكره هذا وتتأذى، وكنت أكرهه وأتأذى أكثر، ولكن البذور لا تعرف أن هذا كله قد يزيدها خضرة، وأنني مهما بدوت أؤذيها، فأنا أتأذى أضعاف أذاها إن تأذت. كنت أخصّ بذرتيّ اللتين تنتميان إليّ بالتعهد والسقي والرعاية دون البقية، أملًا في ظل أستظل به ولو بعد حين. كان الله دومًا يتعهدني وأنا أتعهدهن، ويؤويني إن قرصني الشعور بالذنب من التقصير في حقهن، ويجيب دعائي دائمًا، وينشئ شجراتهن ذات بهجة.

رسائلهن في النهاية وأنا أشعر بالتقصير كانت غامرة، تخبرني أن كل السقي لم يضع منه شيء، وأن حتى بتري كان مجديًا أحيانًا، وأنني مهما حاولت إخفاء حناني وأنا أجتزّ وأجتثّ فإنه بادٍ كالشمس، وأن كل الظلام انقشع، وأن وقت الإزهار حان. ما يزال الله يغمرني بالعفو والرضا والحب مهما قصّرت، وما يزال يسقيني لأسقي، وما يزال ينبت بذوري ويرضيني بظلها أمدًا بعد أمد. الحمدلله.

لا شيء يساوي أن ترى بأم عينيك الحصاد وأنت تشقى في الزرع، ولا شيء يعادل أن يصبح أولئك الذين ترعاهم وتصبر عليهم وأنت مزهوّ بزينتهم في حياتك؛ أن يصبحوا يدك اليمنى، وعضدك الذي يحملك، وعودك الذي يشتدّ. لا شيء يساوي لحظة إجازتهم؛ اللحظة التي تجلس في اللجنة هناك وترى أنهم لم يعودوا يتعثرون، وأنت تراقب تفاصيل تعثّرهم أمدًا طويلًا، تراهم لا يحتاجون إلى إسناد بعد، بل هم الذين يسندون أقوامًا بعدك. لا شيء يساوي تلك اللحظة التي تحتضنهم فيها والدنيا لا تسعك من الفخر بأنهم قد وصلوا، ومن الحب بأنهم قد غمروك يقينًا وأمانًا. لا شيء في الدنيا يساوي أن تعلّمَ القرآن وتأمل أنك تكون من خير الأمة، وتراهم وهم يتعلّمون ويعلّمون أجيالًا وسلسلة ممتدة قوية. كل التعب تلاشى، كل الارتجافات سكنت، كل الدموع جفّت، إلا من فرح. 

قالت لي أفنان أنني كنت أعرف منذ البداية أن الدرب وعر، لكن كل ذلك أجر ولا شيء يعادل لذة صحبة القرآن. كنت أعرف مشقته لأنني جربته من قبل، وكنت أعرف كم سيستهلك ذلك من قلبي قبل جسدي وعقلي وروحي. كنت أعرف أنني سأذوق كل مرّ مشاعر الأمومة قبل أن أكون أمًا، وأنني سأتعلم كيف أكون حكيمة في التعامل لئلا أخسر في خدعة الحرب، وأن كل هذا سيزهر. كنت أعلم أن كلًا يقضي إجازته بطريقته بين أهله وأحبابه، وأن صديقاتي يتدربن معًا، لكنني اخترت ألا أكون هنا أو هناك، اخترت أن أنغمس في رياض الجنة، التي كان عذابها نعيمًا. اخترت درب القرآن وأهله؛ ففتح الله لي وبارك وأعطى ومنّ وتفضّل.

قالت أفنان: "أن تكون معلم قرآن يعني بالضرورة أن تكون قدوة، أن تكون الأحسن خُلقًا، أن تكون الألطف إذا لم يستدعِ الأمر بعض القسوة، أن تقسو على مضضٍ أحيانًا، أن تحمل هم الحروف الخاطئة واللحون المستعصية، أن تحاسب نفسك كثيرًا، أن تكون معلم قرآن ليس بالأمر السهل". وأقول أنا: كل هذه المشاق تهون، حين ترى بذراتك التي شقيت لأجلها، وأحلامك التي زرعتها حلمًا حلمًا من دم قلبك، تراها جميعًا تتحقق وتكون، وتصير هي شجرات تزهر وتبذر شجرات جديدات. لا شيء في الدنيا يساوي هذا أبدًا؛ لا شيء. 

الأربعاء، 18 سبتمبر 2019

يوم لا يهمّ أحدًا.

اليوم هذا لا يهم أحدًا. نمت البارحة ولم أكن مستيقظة كعادتي لحظة تغير التاريخ ودخول تلك اللحظة، لم تعد تؤرقني الساعة الواحدة بعد منتصف الليل التي وصلت فيها إلى هذا العالم، لكن الذي ما زال يؤرقني كيف كنت أركل أمي وهي تحتضنني بداخلها لأخرج، وكيف نزعت قلبها بيديّ ألف مرة طوال سنيّ عمري الاثنين والعشرين، هذه اللحظات هي الأكثر ندمًا وألمًا، لكن أمي تدري أنني لا أقصد إيذاء قلبها، وأنها أميرة قلبي دائمًا وأبدًا، وأنها سيدة الفضل الأولى بعد الله. هذا اليوم لا يهم أحدًا، ولا يهمني. لا شيء يدعوني للاحتفال به؛ بل توجس ووجل من أنني أكبر بسرعة وعداد عمري يزيد سنة كل مرة، وهو في الحقيقة يتناقص. ماذا قدمت؟

عمري اليوم اثنان وعشرون سنة، تمر سريعًا بحلوها ومرّها، تكشف الحياة كل يوم عن أنيابها ومخالبها، لكن هذا يعلمني طرقًا جديدة في المراوغة والهرب، والمواجهة حين يتطلب الأمر. صرت أقوى وأصلب، وكذلك صرت ألين وأرق في الوقت نفسه. حين أنظر إليّ قبل سنين، وحين تفتش ماريا في مدونتي فتستخرج تدوينات مدفونة منذ خمس سنين، وحين أقرأه ما كتبته في دفتري قبل أربع سنين؛ أطمئن عليّ، أشعر أنني هي الفتاة التي أريد، وبما رباني عليه والداي، وبالمبادئ القوية التي زرعت فيّ، بصورة أنضج، وبالتأكيد أحلى. في الحقيقة أحمد الله كثيرًا أنني كبرت ونضجت وتوسعت مداركي بينما لا زال كثير غيري في تلك الفوهة الضيقة لعمر يصغرهم بكثير؛ فتكبر أجسادهم دون أن يكبروا هم. الحمدلله الذي رعاني وكفاني وآواني ولطف بي في كل خطوة، الحمدلله الذي رباني وكبّرني وأنضجني، الحمدلله الذي يحيل مرّي حلاوة، أو على الأقل يستر مرّي في لبّي ولا يري مَن حولي إلا الحلاوة.

هذا اليوم لا يهم أحدًا، ما يهم هو أنني أخافه أكثر مما أرجوه، وأقف فيه وقفة لا يفهمها أحد. أقف لأؤنبني، وأقف لأمتنّ لله على جزيل إحسانه إلي، ولكل من يمنحني شيئًا منه خلال عمري؛ أمي وأبي، شقيقتاي اللتان لا زلت أتذكر احتفالهما بيوم مولدي التاسع حين حملتني إحداهما من الطابق العلوي إلى السفلي بعد استيقاظي من نومي وحملت الأخرى حقيبتي وكتبي وأخذتا ترفهانني ترفيهًا غير اعتيادي لأنه يومي المميز، كل من كانت صديقتي ولا زالت في قلبي وبنت شيئًا مني وإن لم تعد صديقة، وكل أهلي وأحبابي، أمتنّ لله لأنني لا أستطيع الإحصاء مهما عددت ومهما أطلت وذكرت، أمتنّ لأنني آمنة، لديّ زوج معطاء حنون، أمارس ما أحب وقتما أحب، أدرس البكالوريوس وأوشك على التخرج، أمي فخورة بي وتباهي بي في كل مجلس وبين صديقاتها، ولديّ صحبة مثالية، والله يمكنني في تعلم القرآن وتعليمه، أغرق فيه حبًا، وأغرق في حب بناتي فيه. ماذا أرجو؟

هذا اليوم بالذات لا يهمني لشخصي، بل يهمني لأنه يوم استثنائي، يوم أسعد من العادة؛ سعادة لا يستوعبها بشر ولا حبر. اليوم أجيزت بناتي اللاتي كنت أسقي بذورهن مرارًا، وأفرح بالبرعم مرة، ويسوءني الورق اليابس مرة فأقطعه، وأضيق ذرعًا من كل شيء وأود لو أبتره، ثم أجد بعد حين زرعًا ناضجًا وثمرًا حلوًا. يكفيني من عمري هذا الزرع. يكفيني من هذا العداد الساذج زرع قرآني يزهر فيّ قبل العالم. يكفيني أنني أبذل لإصلاح سوء العالم ولو بشيء بسيط، فيزهرن هن. يكفيني أنني لا أنسى الأمة وأضعها في حسباني دائمًا بينما أكثر الناس غافلون، ويكفيني أن الله يذكرني، وقليل من عبادي الشكور. 

إلى أين وصلت؟ وإلى أين أريد أن أصل؟ في اثنين وعشرين سنة؛ أصبحت معلمة قرآن آمل أن تكون حنونة على طالباتها معطاءة وكفأة، أكاد أتخرج، كسبت برحمة الله وحده صديقات كثر يغنينني عن الدنيا وما فيها؛ إن أحسنت دفعنني، ولا أكاد أسيء حتى أتلقى منهن زجرًا أو حتى ضربة، أحاول أن أتعلم وأقرأ أكثر وأكثر وألا أفقد شغفي في العلم حتى أموت، أحاول أن أكون فريدة في تخصصي، بخبرة وشغف لا يضاهَيان، أحاول أن أكون ابنة بارّة وأقتلني إن لم أفعل، وأبذل كل جهدي لأكون زوجة محتوية تبعث الحياة في بيتها، وأتهيأ لأكون أمًا صالحة ملهمة، وآمل أن أكون صديقة جيدة تستمع وتطبطب وتشير وترشد وتفيض خيرًا، وما أرجوه حقًا هو أن أكون لبناتي القرآنيات اللاتي يحتللن قلبي أمًا صالحة رفيقة؛ تأخذ بأيديهن حنانًا من لدن الله، وألا أضع أي بصمة سيئة في قلب إحداهن. أدعو الله دائمًا أن يجعلني مباركة أينما كنت، وأسعى لأن أكون. 

أقسو كثيرًا، أنهض مرة وأسقط خمسًا، لا زالت أخلاقي تحتاج تقويمًا، ولا زلت آخر العنقود المدللة مهما كبرت وتحمّلت مسؤوليات، أظنني سأصير أمًا وأنا أظل أبحث عن ظل أو فيء، وعن صدر حنون آوي إليه، وعمن يسمع شكواي وبكائي ولا يكثر عليه أبدًا. لا زلت ألتمس حضن أمي حين تصفعني الحياة، ولا زالت تعرفني وتفهم تصرفاتي الطفولية التي لم تكبر وإن كبرت أنا. لا زلت لا أطيق العيش دون أختيّ وابنيهما اللذين هما فلذتا كبدي وإن لم ألدهما. لا زلت أخطو وأكبو، وأحاول أن أكون أقوى. صار العالم يراني قوية، بينما في أعماق نفسي ضعف لا يراه أحد. كبرت أو لم أكبر، لا زلت أبحث عن الله وقربه، ولا زلت أتودد إليه وأرجو حنانه قبل أي حنان، لا زلت أتلمس الدروب إليه دربًا بعد درب، ولا زلت أراه كل شيء، وفي كل شيء. لا زال هو يؤويني ويهديني إليه، ويصب علي الخير صبًا هطولًا، يحنّ ويمنّ، وأمتنّ وآوي. 

الثلاثاء، 10 سبتمبر 2019

مذكرات حاجّة (صغيرة) 8

يطول الطريق بنا، لكن هذه المرة لا يكاد يقرب السأم أيًا منّا، رائحة الوطن نكاد نشمها من مكة تستقبلنا بالأحضان. يسألني كل أحد: متى تعودون؟ أخبرهم أننا في طريق العودة فيفرحون. نشتاق ونفتح صدورنا لنؤوي بيوتنا وأهلنا داخلها، ولكن كيف نفارق مكة؟ هل تُقُبِّل ما جئنا لأجله؟

مهما طال الطريق، الأرواح كلها منتعشة، الأعين كلها لا يمسها التعب وهي تمني نفسها بأن تتكحل قريبًا برؤية الأحباب، شوق إلى الوطن والبيت والاستقرار، ولكن جزءًا غير مرئي من هذا الشوق ينازع إلى مكة. كيف يرضى هذا الفؤاد الرضيع الذي لا يرضيه شيء؟ كل شاق يهون في طريق العودة، لا يهم الجلوس الطويل ولا حتى الوقوف الطويل، ما يهم هو أننا سنصل، ونود الوصول في أسرع وقت ممكن. تشتري بعض النساء من الطريق شيئًا من الحلوى يدخلن بها بيوتهن ليدخلن السعادة على قلوب الأطفال والكبار، أشتري حليبًا وعلكتي المفضلة المرتبطة بالطفولة التي اختفت من عمان، وشيئًا من الحلوى لأهل البيت. نحث السير، نودع السعودية عند حدودها بهدايا مصاحف، نقترب إلى عمان، ها نحن ندخل عمان. شعور بالأمان غامر، وشعور بالفقد أغمر. كيف أتناول وجباتي دون أن أتفقد هناء وميمونة؟ كيف نفارق تلك الثلة التي يضج المطعم بمرحها؟ نعود إلى أهل وأحباب، ونفارق أهلًا وأحبابًا آخرين، وما الحياة سوى لقيا وفراق؟

الليل يدلهمّ والتعب يعصرني عصرًا، الحمى كانت رفيقة الطريق الطويل ورأسي لا يطيق الاهتزاز والحافلة ترجّه، نقترب من الوطن، نتعشى العشاء الأخير الذي لا نبالي حتى وإن لم نتعشه، نريد الوصول فحسب! يبدأ الركاب بالنزول محطة فمحطة، نصل إلى السويق -موطن أكثر الحجاج- عند منتصف الليل، مشهد مهيب تقشعر له الجلود؛ السويق كلها خرجت تستقبل حجاجها؛ من الطفل الرضيع إلى المرأة العجوز، لا يكاد ينزل حاج من الحافلة حتى يختفي بين الحشود المهللة بالأحضان والعناق والتقبيل والاحتواء، يستقبل الأهالي أحبابًا يشتاقون إليهم، ولكنهم عادوا ليس كما تركوهم، بل مواليد جدد يتطلعون للحياة. المشهد مهيب، الدفء يسود، والدموع سيدة الموقف. ماذا عني؟ متى أصل إلى داري وأهلي؟ نركب الحافلة مرة أخرى بعد هنيهة دون أن أودع هناء التي اختفت بين الحشود، نسير إلى مسقط، نصل إلى المحطة، يستقبلنا الأهل، نصل إلى الشقة في قمة التعب بعد الواحدة والنصف. الحمدلله على السلامة والتمام والبلاغ، الحمدلله الذي أمدنا بالدفء والأمان، الحمدلله الذي أتم لنا المناسك، لحظة؛ أي مناسك كنت أعني؟ لست مستوعبة إلى اللحظة. 

نعود إلى الوطن، وإلى الحياة اليومية المزدحمة، أعود وبي وجل عارم من الحياة القادمة، كيف سأتصرف؟ ماذا سيغير الحج فيّ؟ هل عدت فعلًا كما ولدتني أمي؟ كيف يتصرف المواليد الجدد في هذه الحالة؟ ماذا سأغير فيّ؟ ماذا سأكتسب وماذا سأترك؟ هل أنا إنسان جيد في الوضع الحالي؟ كيف أصير إنسانًا أحسن؟ على عكس أغلب الحجاج عدت إلى عمان معافاة إلا من زكام فارقني بعد يوم من وصولي. عدت إلى أهلي الذين ينتقلون من بيتنا الذي ولدت فيه، نشوة اللقاء بعد الحج مختلفة، وكأنني عدت مزنة التي يعرفونها لكن بهيئة جديدة. بعد الحج، صديقاتي يتقن للقائي؛ تقطع السبل بيني وبين بعضهن وتمهد لأخريات، سعادتي بزياراتهن ووصف الرحلة التي لا أعرف من أين أبدأ في الحديث عنها؛ ماذا أقول عن كل ذاك؟ هل يمكن اختصار كل تلك التربية العظيمة والتجربة الهائلة في بضع كلمات؟ كل ما أعرفه أنها كانت أجمل تجربة روحانية رغم أنني أعلم أنني أبليت بلاءً سيئًا أحيانًا وقصّرت كثيرًا، وأنني أدعو لكل مسلم صادق أن يذوق تلك المشاعر العظيمة. أعود فأتساءل؛ هل كان قرارًا صائبًا الحج الآن؟ ماذا لو نظرت إلى الوراء بعد عشر سنين وأدركت أنني لم أعط أي شيء حقه وأنني كنت أستطيع استغلال تلك الرحلة أكثر مما فعلت؟ هل ستكون المرة الأولى والأخيرة أم يعطيني الله فرصة ثانية في المستقبل؟ أعرف أنني غارقة في التقصير تلو التقصير ولو حججت مجددًا لأصلحت كثيرًا مما ضيّعته الآن!

عدنا إلى الوطن، تمضي أيام معدودة أسقط بعدها طريحة الفراش أيامًا طوال في ابتلاء أتعافى منه إلى ابتلاء ثانٍ وثالث ورابع، ومن حولي يقولون "ضريبة الحج التي لم تدفعيها حال عودتك!". دفعت الثمن غاليًا بعد أيام من العودة، لكن رغم التعب كله الذي أغرقني، والابتلاءات المنهكة، أؤكد أن كله يهون في سبيل الحج، لا أبالي إن أصابني ما أصابني في سبيل تلك الرحلة العظيمة. أستشعر مع كل ابتلاء وألم أن الله يطهرني تطهيرًا، وأن هذه قرصات خفيفة على عظم تقصيري، وأنها ترقّع ما أبليته هناك. قضاء الله على الإنسان نافذ رغم الكمامات والعسل والتطعيم والوقايات، لطف الله يحيط بك رغم كل الجَهد والبلاء.

ماذا بعد الحج؟ أقضي أيامي أستمع ليل نهار إلى محاضرات وخطب في "ماذا بعد الحج" وأحاول أن أطبق ما يقولون بحذافيره. أعلم أنني مهما حاولت مقصرة، لكنني أحاول على الأقل. أعقد العزم على أن أكون مزنة التي كانت في الحج؛ تلك التي رباها وعلمها كيف تتصرف. أزلّ مرة عما قد عزمت على أن أكونه، أنازعني لأمشي على ما اتفقت عليه مع نفسي، وأدعو الله أولًا وآخرًا. ترن في ذهني كلمة ماريا حين أبديت لها خوفي من ألا أكون مولودًا جديدًا وأنني لا أعرف كيف أتصرف فتقول لي: "تخيلي أنك قد ولدتِ الآن مولودًا، علامَ تريدين أن تعوّديه وتربيه؟ كيف تريدين منه أن يكون حين يكبر؟ ربّي نفسك الآن وكوني كما تريدين أن يكون طفلك -الخيالي-". أحاول أن أكون بكل ما أملك، وأسأل الله وحده المدد والقبول والإخلاص.

ألتقي بأهلي وصديقاتي بعد الحج -حتى بمدة-، يحتضنونني كما لم يفعلوا قطّ، ويهنئونني أعظم تهنئة؛ أكثر حتى من تلك التي كنت أتلقاها وأنا عروس. كل أحد يبارك بشغف من القلب، لا شعور أعظم من هذا وأنت تتلقى هذا كله وتشعر كأنك حزت الدنيا وما فيها، وتشعر أن لا شيء يستحق التهنئة أكثر من هذا. تشعر أنك ذو حظ عظيم جدًا تريد أن تقاسمه كل أحد، وتدعو لكل من يهنئك بالعقبى له. يسألون: كيف كان الحج؟ احكي لنا! تلجمني الكلمات، لا أعرف من أين أبدأ وماذا أقول، أتذكر الاصطفاء ويدغدغني ذاك الشعور الجميل الباعث للبكاء، أقول: كان عظيمًا حقًا، كان شعور الحج فوق كل وصف، رزقكم الله الذي رزقني لتذوقوا ما أعني!