الخميس، 1 أغسطس 2019

مذكرات حاجّة (صغيرة) 1



كان يومًا حارًا قاسيًا، لم تكن قسوته في حره بقدر ما كانت قسوته في اختلاف الناس بين مُعيّد وصائم عرفة، شعور الوحدة في عيد المسلمين وهم يصومون معًا ويفطرون معًا تلاشى وأبناء البلد الواحد تفرقوا، فأينما حللت وجدت أطفالًا متزينين معيّدين، بينما أنت صائم. كنت أدعو بينما الناس في عيد، اللهم أينما كان عرفة وأينما كان العيد، اللهم هذه حاجاتي أستودعك إياها وأنت أعلم بالقدر الأجمل لي، اكتبها لي متى ما شئت، إن كان خيرًا لي فلا يأتي عرفة القادم إلا وهي محققة. كنت أدعو بيقين أكثر من أي وقت مضى وأنا أقرأ عن قصص الذين دعوا بيقين يوم عرفة فما جاء عرفة التالي إلا ودعواتهم واقع يعيشونه. كانت كل الأسباب تشير أن دعوتي مستحيلة الإجابة، وأن ربما في وقت لاحق، ولكن هأنذي بعد أقل من عام أقول: "قد جعلها ربي حقًا". 

ظللت أسبوعًا لا أمشي على الأرض أبدًا، بل أخطو بخفة بين السحاب، حالة سماوية روحانية لا يبلغها كثير؛ تلك التي تدغدغك بل تحتويك وأنت تشعر أنك عبد مصطفى من الله، وأنه اختارك من فوق سبع سماوات للقائه، وللاستجابة لأمره، وللتلبية حبًا. حالة سماوية تلك التي تنتابك حين تدعو بيقين فلا ترى أي بوادر إجابة، ولكنك تظل تترقب شهرًا كاملًا ليل نهار وأنت موقن بالإجابة ولو انقطعت الأسباب. الرقم 156 في قائمة الانتظار الذي أحاله الله إلى صفر وحقق وعده، رغم كل الأسباب المنقطعة، والآلاف الذين يسجلون كل سنة وهم أكبر سنًا وأدعى للقبول فلا يقبلون، اختيار الله وقع علي. آمنت. 

وسط غرق العرض والتقرير الذي كلما عملت فيه وبحثت ازداد ما بقي علي منه لا قلّ، وعندما يسخر الله لي كل ما أحتاج دون سؤال، وسط التعب من رتابة الضغوطات التي تفقد الحياة طعمها، تصلني الرسالة الأجمل في حياتي على الإطلاق؛ "مبارك! [مزنة...] مستحق للحج هذا الموسم." دع عنك نسبة الثانوية والقبول في الجامعة، ودع عنك أي قبول في أي دورة، ودع عنك كل رسائل الأحبة. هطلت كل مشاعري غيثًا، رميت بالحاسوب جانبًا وسجدت سجدة لم أسجد كمثلها قبلها ولا بعدها أبدًا. هل يعبر البكاء فرحًا عن الشعور؟ لا أعرف. المهم أنه كان شعورًا استثنائيًا.  

يكاد لا يصدقني كل من يسمع خبري، ونكرانهم الخبر يزيد امتناني وحبي لله أن اصطفاني. مباركات أمي وأخواتي، دهشة وفرح صديقاتي، وصاياهن وتذكيراتهن لي كم أنا محظوظة، كل الدعوات الهاطلة حملتها في قلبي، وردود أفعالهم جميعًا لا تغيب عني لحظة. الوداعات والمباركات، وإهداءات "نور في الأجواء تألق" و"ودي لي سلامي يا رايح للحرم" بأصواتهن كانت تكثّف المشاعر وتركمها استعدادًا للهطول. الحمدلله رب العالمين.

صدمة الناس من الخبر كانت لأنني لا زلت صغيرة لم أنهِ حتى الجامعة، كرر أخي: كيف تذهبين وأنت بهذا العمر الصغير؟ رددت عليه مداعبة: لكنني مفطومة! صدقت كلامه حين وجدتني الوحيدة في الحملة كاملة من جيل التسعينات إلا واحدة تكبرني بست سنين، وأن أغلب الحملة نساء كبار في السن. شعور مريب بعض الشيء كوني "الطفلة" بينهم وهم أغلبهم يتعارفون، لكنني دعوت الله مرارًا بالصحبة الصالحة، ولا يخيبني. 

التجهيزات المادية ما بين غسيل وكي وشراء للنواقص وتوديع وأداء أمانات تجعلني متأكدة أنني مستعدة. لكن يبقى السؤال المرهق؛ ماذا عن الروح والفقه؟ قرأت المعتمد، بدأت أقرأ كتبًا غيره، أحاول الاستعداد بكل الطرق، آمل أنني نجحت!

أحد أهم الأهداف التي نصبتها للزواج كانت الحج، لم تكن السبل المادية متيسرة أبدًا. كنت أغبط قريناتي اللاتي وسع الله عليهن فيكثرن السفر مع أزواجهن في أول سنوات من الزواج، ولكن بعد أن يسر الله وبذل سليمان الغالي والنفيس لأجل أن نحج، أدركت أن نظرة الإنسان كثيرًا ما تقصر، وأن الحظوظ مقسومة على قَدَر، وأن قَدَري كان الأوفر برحلة العمر في عمر صغير قبل مسؤوليات الأبناء وغيرهم. أدركت أن الحظ والحب قد لا يكون دائمًا في سفر ترفيه، بل يتجلى أكثر في سفر أرقى وأنقى، حيث العودة إلى البيت الأول. 

شعور أن تترك فراشك الوثير، تترك أهلك الذين تشتاق إليهم وتقلب صورهم ليل نهار، تترك الأطفال ودفء البيت، تتخلى بكامل إرادتك عن وطنك، عن العيد مع أهلك، وتقرر أن تغادر إلى بقعة لا ذكرى لك فيها، لكنك ما إن تصل؛ تشعر كأنك ولدت هنا، كأن فؤادك معلق هنا أكثر من تعلقه بوطنك، تشعر بالأمان والسكينة، وتود لو لا تغادر أبدًا. 

بعد قبول الحج في عشر رمضان الأواخر، كان وقع القيام بسورة الحج مختلفًا تمامًا. لم أكن على الأرض وهي تتلى، بل كنت بعيدة جدًا. لا زال وقع "أدوا المشاعر بمشاعر" يرنّ في أذني، ويدفعني للقراءة والتدبر لأستشعر وأفيض حبًا. 

في الطريق عند الحدود، لا تزال الدمعة عالقة؛ دمعة فراق الأهل والأحباب والوطن، لكن هذه الدمعة يغلبها الشوق، يغلبها ذلك الترك بكامل الإرادة، والانصياع والتلبية بكل الحب والشوق. لا تزال المباركات تنهال، ولا أزال أستشعر الاصطفاء الرباني الذي لا أستطيع وفاء حقه من الامتنان والحب للطيف. 

دعوت الله وأنا في سنتي الجامعية الأولى ألا أتخرج إلا وأنا قد حججت، ونسيت الدعوة حتى. ثم دعوته أن يرزقني عمرة قريبة ترد روحي إلى محلها، فرزقني بلطف أقداره وكرم عطائه وجزيل هباته عمرة وحجة. رزق الله كل مشتاق، وألقى في قلب كل محتاج الدعاء بيقين لا يرد عن الإجابة. حب عميق ودعاء. 

هناك 5 تعليقات:

  1. تقبل الله منك مزنة الخير..
    حلقت بكلماتك الى عالم آخر
    رزقني الله حج بيته الحرام العام الماضي والحمدلله
    وكأن شريط تلك الروحانيات تعود لي مجددا
    كم أغبطك ♡

    ردحذف
  2. كلمات تهز المشاعر مزنة
    رزقني الله كما رزقك ولا تنسينا من الدعاء 🙂

    ردحذف
  3. عنِ اليقين تتحدثين! وعد الله لا يخلف الله الميعاد

    ردحذف
  4. طفله صغيره بعقل كبير ترسم البسمه تسعد الجميع كنت خير سند لنا فالرحله كنت رحمه أضيفت لنا لسهل لنا المناسك
    بارك الله لك في عمرك ورزقك وايانا جنته

    ردحذف
  5. كنت اتسأل لماذا انتي منزوية بعض الشيء عن البقية فسألت عنك واخبروني انك من مسقط . ولكنك والله رغم كل شيء كنتي لروحي بلسما ولقلبي غيثا هاطلا يروبني في كل مسألة كنتي اقصدك فيها انتي وزوجك. مزنة الخير حاجة صغيرة بقلب مفعم بالطهر والنقاء اصطفاك الله لتكوني بيننا، اصطفاك لتكوني خير سند وخير متكىء قصدك الكثيرات وبالأخص انا .
    جزاك الله وزوجك عني جنات النعيم .

    ردحذف