الثلاثاء، 13 أغسطس 2019

مذكرات حاجّة (صغيرة) 4

من مِنى، الموطن الذي كلما ضاق اتسع. مِنى المكان الذي يضعك في تحدٍّ مع نفسك فحسب. لا شعائر تؤدى هنا سوى المقيل والمبيت. لا عبادة معينة مفروضة عليك، بل هي مخالطة الناس في حيز ضيق يلزمك بهم، يلزمك أن تشاركهم طعامك وشرابك ومبيتك وحتى حمامك. ليس بالسهل أن تكون محاطًا من كل جهة بالناس الذين لا تربطك بهم صلة قربى ولا مودة، وإن أردت قضاء حاجتك فقف ما شئت من الدقائق الطوال والساعات لتنال فرصة محدودة يعجلك عليها مَن بعدك. هنا تضيق الأرض بك، ولكنها تتسع في الوقت نفسه. هنا تشعر على ضيق الظروف أنك متسع للناس جميعًا، وأن كلهم أحبابك، وأن كبيرهم أبوك أو جدك، وأن البقية صحبك. هنا تنتصر على نفسك بألا ترفث ولا تفسق ولا تجادل رغم أنك محاط إلى أبعد مدى بالناس. هنا تنفرد وتخلو بنفسك بين الزحام، هنا يكون محرابك الخاص المحاط بعشرات الناس الغادين الرائحين.

تحت القمر المنتصِف، تقف وتلبي وأنت تنتظر دورك في طابور طويل لتغسل يدك، لبيك لا شيء من هذا كله يساوي شيئًا، كلنا إليك، وتحت أمرك. هنا تنام بين عشرات الفرش المتطابقة، الخيمة مقبرة، الفرش قبور، النيام أموات، وأنت ميت لا محالة. تستلقي لتدرك أنك ميت، لكن الله أعطاك فرصًا زيادة؛ ماذا ستقدم؟ وعم ستؤخر وتتدارك؟ المبيت هنا يشبه إلى حد ما وقت البرزخ، مع فارق أنك هنا تختار مصيرك وتملك قرارك، أما هناك فلا رجوع. مِنى، حيث المكيف ليس في أحسن حالاته من التبريد، والمكان ضيق، والحمامات أضيق، ولا سقف يؤويك سوى قماش خيمة، لكنك تعيش في أفضل حالاتك عيشة لا تذوقها في قصر مشيد. "إن منى يتسع بأهله كما يتسع الرحم"، هنا تنغمس في كل هذا بروحانية عمياء عن كل المضائق وتتسع أكثر كما يتسع منى، وتنمو في الرحم اللطيف بك لتغدو طفلًا جميلًا يسر الناظرين. هنا تقيل تعد عدتك للحج ولعرفة، وتذكر الله قائمًا وقاعدًا وعلى جنبك، وتعد قائمة لما ستفعله في عرفة وتختار من أين ستبدأ، وتصفي كل ملفاتك، وتستعد لولادة جديدة مولودها أنت!

إلى ليلة عرفة، لا زال لقب "حجاج بيت الله" كبيرًا جدًا علي ولا أكاد أصدق أنه يخصني. لا شيء يحتوي سعادتي وأنا في مِنى ألبي، وأعيش هذا النعيم كله. لا أرض تسعني حين أدعو الله بالقوة والعافية لأداء المناسك كما يحب هو ويرضى، وأن يجعله حجًا مبرورًا وسعيًا مشكورًا، وأن يرزقنا كمال المشاعر في أداء المشاعر، وحسن الاستعداد لكل منسك حتى نعطيه حقه في الأداء، وأن يقبلنا مواليد جدد في هذا العالم الذي يضج بما يكفيه من السوء. امتنان الأرض كله لا يكفي للتعبير عما بداخلي لله لأنه اصطفاني، وأحاول أن أكون على قدر هذا الاصطفاء.

صبيحة عرفة، تستيقظ النساء منذ الساعة الثانية ليقفن في طابور دورات المياه لكي يعدن قرب الرابعة. أفتح عينيّ في الثالثة، أنظر حولي، أفهم الموضوع، أعود للنوم، جسمي يحتاج شيئًا من قوة لهذا اليوم العظيم! دعوني! أنهض مجبرة بعد إلحاح منهن بعد دقائق، أذهب للوضوء وأنتهي في دقائق لأن المغاسل متوفرة عكس الحمامات التي تضج بالمستحمات، كيف تستحم إحداهن وهي تعلم أن أختها أو حتى أمها تقف ساعة أمام باب الحمام لتقضي حاجتها في وقت السحر؟ لا أدري. ألم تكن مِنى تعايشًا مع الناس وإيثارًا وسلامًا؟ لا أدري.. ربما احتجن الاستحمام لكي يعشن عرفة أفضل..

بعد انقضاء الفجر، كل شيء يمر بلمح البصر، درس سريع، غسيل وجه وأسنان لأجد الإفطار حاضرًا وعلي تناوله سريعًا، آكل ثم يصب لي الشاي لأجد نفسي غير لاحقة على شربه حتى لأنهم يعجلوننا للنفير، نوضب أغراضنا في دقيقتين ونحن نتلو أذكار الصباح ونخرج لنجد الشمس قد أشرقت، نفير مع التلبية ونحن نتجاوز خيمة بعد خيمة تابعين الراية وكلنا أكثر من سبعين امرأة نرتدي الوشاح البنفسجي، لبيك.

إلى الحافلة، منها منظر الحجيج الماشين يبتغون فضلًا من الله إلى عرفة، عيني تقع على اللوحة "هنا بداية عرفة" فينبض قلبي أكثر من أي وقت مضى. ننزل، عيني تقع على جبل الرحمة الذي يتزاحم عليه الحجيج دون أي وجه تفضيل يخصه لكنهم يفضلونه. درب طويل محفوف بالغرائب تحت شمس حارقة، متسولون كثر، يوزعون الماء البارد على الحجيج، قمامة تغمر المكان رغم أنه مشعر مقدس، إلى عرفة، ذاك الموقف الذي يغفر الله لكل من وقف عليه ولا يبالي. إنه الحج، يوم تحقيق الأحلام، يوم تعرف نفسك أكثر وتعرف كل ما فعلت وتطلب من الله أن يتجاوز عن كل ذاك الذي تعرفه، يوم يهديك الله لتعرفك أكثر، ويوم تحدد أنت مصيرك دعاءً وعملًا، هو اليوم الذي دعوت الله أن يرزقني حجة قبل عام فكنت اليوم هنا.

نصل إلى الخيمة فأتفاجأ بالواقع مقارنة بتوقعاتي، دورات المياه حالتها سيئة، ومواضئ النساء مكشوفة على ممر للمخيمات ومواضئ الرجال. لم نكن نملك إلا أن تمسك إحدانا للأخرى لحافًا لتغطيها وهي تتوضأ. رغم كل هذا، تستشعر وأنت هناك أن الموطن موطن رحمة، ولو كانت أرضًا غير ذات زرع إلا أن الرحمات تغشى الأرض غشيانًا يزيح الشوك ويثبت تراب الأرض. نصل منذ الصباح فنقعد نترقب الزوال لتبدأ الوقفة، نضجع أجسادنا المرهقة، وأستمع مع هناء إلى محاضرة دمعة في الحج فتعيد بعثرة كل شيء في دواخلنا ثم ترتبه. وصولي إلى هنا اصطفاء عظيم، هل أعددت له ووفيته حقه؟ سؤال مرهق. أحاول أن أرتب جدولي، هل أنام؟ لا لا يجدر بي أن أتجهز. أحافظ على وضوئي، تبدأ الخطبة، تهز القلب، نصلي صلاة مهيبة والخيمة مملوءة عن بكرة أبيها، نفترش التراب الذي يغطيه سجاد بسيط ولا شيء يعمّر المكان سوى دعواتنا وعملنا. هل أثثنا قبورنا كما يجب؟

يحضر الغداء فنتناوله سريعًا لنلحق على استغلال السويعات، تنقطع الكهرباء والجو حار رطب وكأن السماء تضغط على الأرض. تتضجر النساء، أقول؛ لعله تذكير من الله لحر يوم عظيم ليجعل قلوبنا أرق وأخشى. قلت في داخلي: يا رب غوثًا، قلوبنا عطشى. رغم أن الموضوع كان خارج تصوري تمامًا أن ينزل مطر في هذه الشمس الحارقة والجو الملتهب، ما هي لحظات حتى بدأت الريح، وأعلنت البعثة العمانية أنهم سيطفئون الكهرباء لأن هناك توقعات لأمطار تهطل بعد قليل. لم أصدق أذنيّ، كيف يرحمنا الله هذه الرحمة الغامرة ويخفف عنا كل هذا التخفيف ونحن المثقلون؟ يرسل الرياح بشرًا بين يدي رحمته، تقل سحابًا ثقالًا يساق لبلد ميت أهله عطشى يرجون الرواء والرحمات، لحظات وينزل الله الماء يبعث كل ميت، يغسل كل روح، يصبه صبًا مع الريح الشديدة، أخرج لأتعرض له، أستشعر أن الله يغسّلني، تختلط الدموع بالمطر، يغمرني الماء من رأسي إلى أخمص قدميّ، عرفة وخلوة ومطر ودموع وانكسار وأحلام مؤجلة وحياة تفتقر إلى روح من الله، أحباب بعيدون ومرضى وتائهون وعطشى وحزانى وضعفاء. كل أسى يتبدد بين يديك يا الله، وحدك تأخذ بيد الضعيف وتجبر المكسور وتدل التائه وتجيب الحائر برهانًا بعد برهان، وحدك تحيي الموتى وترينا الآيات العِظام، وحدك تبعث الفرح وتلم الشمل وتقرب الصحب وتبعد الشقاء، وحدك تغمر بالعافية وتنزل السكينة وتبعث الرحمة، وحدك تحيي الأرواح وتشفي كل شيء بالحب، وحدك القريب، وحدك المنجي، وحدك اللطيف، وحدك الرحمن. 


كأن الكوكب كله دخل في حداد حزين لحظة غروب شمس عرفة. في آخر دقائق، كل الدعاء كان "اللهم اجعلنا من المرحومين لا من المحرومين". أي حرمان أعظم من أن يعتق أهل المشعر جميعًا إلا أنا؟ أي خسران إن لم يقبلني الله مولودة جديدة، فيولدون جميعًا من جديد وأبقى أنا بأدراني؟ هل أخرج من عرفة خفيفة كما ينبغي أم أبيت بأثقال تنقض ظهري؟ ما إن غربت شمس عرفة وأظلمت الخيمة، رحت ألملم أغراضي المتناثرة لأن الماء غمرها فأبعدوها كلٌ في بقعة. تساعدني هناء وميمونة، أركض فأجدني الوحيدة الباقية والقافلة كلها تنتظرني للتحرك. يبدأ النفير إلى مزدلفة الآن. 

حالة استنفار شديدة ونداءات وصراخ، يخرجون جميعًا وأخرج معهم وأنا أبحث عن سليمان فلا أجده. أسأل عنه، أتصل به وهاتفه يتعذر، أضطر للنفير معهم دون سؤال عنه. نركض بسرعة بالغة لئلا نتأخر على الحافلة التي لا يسمح لها بالدخول إلى مقرنا، ندلج ونركض، نتجاوز كل السائلين في الطرقات، الماشين ببطء، المتكتلين على بعضهم، البائعين، موزعي الماء مجانًا، نهرول بلا التفات لكل ذاك الضجيج، نمر بين الحافلات، تمشي الحافلات بلا مبالاة بنا فنحتبس بينها في بقعة ضيقة وتكاد تهرسنا، يطالب الرجال سواقها أن يمهلونا لنعبر فلا يبالون، أصوات أبواق عالية تهز الفؤاد، وأنا أركض، نعالي ينفسخ من رجلي عدة مرات فيرمونه لي، إلى أن ينقطع وأضطر أن أركض بلا نعال في تلك الأرض الوسخة. مشاهد تمر بلمح البصر، كل شي يركض معك، الازدحام يزداد، الصراخ يحتدم، لا أحد يبالي بأحد ولا يبحث عن أحد، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه. أحمل حقيبتي الثقيلة وحدي لأن سليمان لا يستجيب ولا أملك أدنى فكرة عن مكانه، وأتذكر ﴿يَومَ يَفِرُّ المَرءُ مِن أَخيهِ ۝ وَأُمِّهِ وَأَبيهِ ۝ وَصاحِبَتِهِ وَبَنيهِ﴾. نصل إلى الحافلة أخيرًا، لكنني مذعورة ومرعوبة ومفزوعة. أهدئني، أدعو من أعماق قلبي ألا يحزنني الفزع الأكبر ومن أحب. مشهد خفيف يريني حقيقة قادمة. هل أعتقنا؟

ربما لا يُغفر لكل أهل المشعر، ربما يأتي عبد يحسب أنه يحسن صنعًا ويخرج صفرًا، بل موزورًا. ربما يأتي ليتطهر، لكنه يتدنس. الله الحكم العدل، كيف يغفر لعباد يدنسون حرمة أطهر بقع الأرض فيحيلونها مكب قمامة؟ ﴿ذلِكَ وَمَن يُعَظِّم حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيرٌ لَهُ عِندَ رَبِّهِ﴾. لا أبالغ وأنا أقول أنني جربت شعور العيش في برميل قمامة، طبقات متراكمات من الأوساخ متراكبات، بين علب فارغة ونعم مهدرة وطعام مفروش على الأرض مختلط بالتراب والوسخ والسواد ولبن مسكوب وقشر فواكه وفواكه مهروسة، كل هذا مغمور بماء المطر والرائحة لا تطاق. كل هذا والبشر والحافلات وكل شيء يطؤه دون أي شعور بأن هناك خطبًا. سقيت عرفة بالمطر، رحم الله الأرض والدواب والناس، لكن الناس لا يستحقون السقيا يا رب! 

نبلغ مزدلفة، نجد الخلق يتجمعون رويدًا رويدًا، أتفأجأ بأن مزدلفة أرض جرداء؛ شارع ورصيف عليه حصى. ندخل البقعة المخصصة للنساء، لا شيء مميز فيها سوى قماش خفيف منخفض يحيط بها لزيادة الستر والخصوصية -لا أدري أي ستر وأي خصوصية!-، نتجمع ونتسامر سمر ليلة العيد، كيف مر عرفة سريعًا؟ وكيف انتهى؟ ما أعرفه أن هذه الليلة ليلة عيد، ليلة انتظرتها طويلًا. رهبة تغشى المكان والحجيج يتجمعون ويزدحم المكان، وكلما أتى فوج صلوا المغرب والعشاء جمعًا. سكينة تغشانا ونحن نستمع إلى تلاوات بمختلف لهجات العالم، كلهم أتوا ملبين ربًا واحدًا، قبلة واحدة. نوم في العراء دون أي شعيرة خاصة نفعلها هنالك سوى الذكر، لا شيء يذكر هنا، لا يفهم أحد لماذا هنا بالذات، لكننا نفعله امتثالًا وتسليمًا. في وسط اشتغال الناس، في كل بقعة حجيج يجمعون الحصى، يعدونه، يرتبونه، ويضعونه في أكياس أو قناني ماء، كيف يفعلون ما يبدو ساذجًا أو لعب أطفال بكل روحانية ومتعة إذعانًا وتقربًا؟ كيف يفعله الكبير والصغير، الأبيض والأسود، القوي والضعيف، يجمعونه حبًا وتسليمًا؟ عراء، أصوات المشاة المارين، نيام كأنهم جثث بأكفانها، دخان شواء وحافلات قوي خانق، ورهبة غامرة. كيف أستلقي وأصوات الرجال فوق رأسي؟ لا بأس،  لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه. كيف أنام والدخان يزاحمني والكشاف مسلط علينا والأصوات لا تهدأ؟ إنه مشعر الله، الإرهاق يأكل جسدي، أضع رأسي قرب منتصف الليل، وأغيب. يقومونني قبل الفجر للوضوء. صباح العيد؛ العيد المختلف الذي لا يشبهه أي عيد ماض ولا آت. عيد التمام؛ عيد الحج في مكة! 

هناك 4 تعليقات:

  1. يا الله يا الله يا مزنة، وكأنني عشت معك تلك اللحظات، غير أن دمع الفؤاد مدرارا، إني ربي به لوكيل، أسأل الله لك حجا مبرورا متقبلا يا حق.

    ردحذف
  2. الله 😍😍😭...في كل سطر كانت روحي تقشعر أكثر.. الرسالة التي تستحق القراءة أكثر من مرّة..

    حجا مبرورا وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا ن
    رجوه لك

    ردحذف
  3. من أفضل ما قرأت يوما، جعلتنا نعيش مشاعر الحج ونحن لم نحج! بارك الله لكِ وتقبل طاعتكم.

    ردحذف
  4. يا سلام مزنتي.. بارك الله في حرفك وتقبل منك حجك.
    حجا مبرورا وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا بإذن الله، عسى أن يمن الله علينا بحج قريب ونتذوق شيئا من هذه الروحانيات الرائعة.

    ردحذف