الخميس، 1 أغسطس 2019

أيام خفيفة ثقيلة 4

مرت ستة أسابيع سريعة، مضت كأنها يوم أو بعض يوم.. لم يشعر بها إلا من كان خارج قوقعتنا الدافئة التي كانت ملجأً آمنًا نأوي إليه إذا عصفت بنا الحياة. كان القرآن الشافي الملهم المقوي وهو يتلى علينا بكرة وأصيلًا؛ كاللذة التي لا يكتفى منها بتذوق، بل باغتراف ليل نهار. كانت قلوبنا تأوي هنا وتسكن، وأرواحنا بالقرآن تشتبك وتتآلف وترتبط. غدًا تفرقنا الدروب، وتتضاعف المسافات، ويقل الوصل، لكن إذا التقينا مرة بعد مرة نجتمع على شغف كأننا لم نفترق قط. إنه سحر القرآن، إنه حب أهل القرآن العميق. 

مرت ستة أسابيع كنت فيها مثالًا للمعلم الشديد القاسي؛ الصورة التي لا أحب. ربما أبوح الآن بما لم أرغب بالبوح عنه. لم تكن شخصية المعلم الشديد هي الشخصية المثالية التي أحب، بل كنت أفضّل دائمًا المعلم الصديق؛ القريب، الذي يفهمك ويقدرك ويراعيك ويهتم بك. كنت أحاول -بكل تناقضاتي- أن أكون التي أحب، والتي أكره. كنت مضطرة لأن أكون الثانية لدواعي الالتزام. كنت أبدو أقسى إنسان في الحلقة، ثم بعده أشكو و"أتقمقم" كثيرًا لأنني لا أحبني كذلك، ولأنكن لا تحببنني كذلك، ولكني كنت مضطرة! كان يتراكم علي الإرهاق وأشتاق لسنة من النوم، ثم حين يأتي موعدها لا تأتي هي لأن الدنيا تضيق بي لأنني مقصرة في توصيل المعلومات، أو لأنني أشعر أنني معلم سيء وأن بناتي أسوأ حظًا لأنهن ابتلين بي! كان يؤرقني إهمال إحداهن وأشعر أنني السبب، وكان يوهنني تفويت الحلقات، واستمرار الضعف النظري، واللامبالاة بالاعتذار أو بإبداء أي اهتمام. لم يكن يضايقني هذا لأمر شخصي متعلق بي، بل هو القرآن واحترام مواعيد القرآن. كنت أشكو كثيرًا، كانت المجازات بلسمًا دافئًا على قلبي وأنا أتشكى كل يوم عندهن. كل كلمة لطيفة أو ابتسامة أو تعديل خطأ أو اعتذار أو مبادرة خير أو هدية من إحدى بناتي كانت تحيي روحي أكثر بكثير مما تتصور. كنت الإنسان الشديد ظاهرًا، الذي يرجو أن يكون لطيفًا وقريبًا جوهرًا.

إلى بناتي،
أعلم أنني لم أكن خير معلم، لكنني كنت آمل من كل فعل أو كلمة أن تخرجن مجازات قويات متقنات، أفضل مني بالطبع. كل عتاب، كل نظرة، كل حرمان من صندوق المفاجآت، كنت أرجو منه شيئًا في داخلك، شيئًا يجعلك تبذلين دون انقطاع ولا تتواني جهدًا حتى تكوني أفضل ما يمكن. كل هذا كانت آمالًا لا أعرف إن وصلت. لم نكن نتلذذ بتعذيبكن بالاختبارات المفاجئة، ولم يكن انخفاض درجاتكن باعثًا للمتعة؛ بل كثير من الشعور بالسوء. كانت كل كلمة منكن ترنّ في أذني ألف مرة أيامًا طوال، كنت أحاول أن أكون نسمة لطيفة نافعة غير ضارة، ولم أكن أنجح دائمًا. كنت أحاول إيصال رسالة أن تكون همتك أن تكوني متقنة قوية، وأن تبذلي في سبيل هذا كل شيء. الإتقان رسالة، لا تأتي إلا بالصبر على الحلقات رغم النعاس ورغم الضغط ورغم التعب ورغم التشتت ورغم كل شيء. رسالة لا تؤخذ إلا بقوة، لا تؤخذ إلا بقوة دافعها عهد غيبي تقطعينه على نفسك، لا مع أي أحد بل مع الله. القرآن رسالة يجب أن تصل، وهن الأمة يكفيها، لنكن نحن شيئًا من قوة. 

بناتي في الحلقة، 
كنتن في كل يوم تشعلن في داخلي ما لا ينطفئ إلى يوم القيامة. مناقرات نصراء وبثينة من الفجر، الضحك الذي ينشطنا، وكل الحب والدفء الذي أنا ممتنة لله كل يوم أن وهبنيكن. 

بناتي في الإقراء، فاطمة، وبثينة،
أنتما مصدر قوة أستمد منه كثيرًا مما لا تدركان، إقراؤكما قد يشق عليكما، وقد يشق علي أن تستمر أخطاؤكما وأنا عاجزة، أو ألا أجد سبيلًا إلى تصحيحها، أو أن ألا أجد وقتًا لإعطائكما حقكما من الإقراء ومن الدروس النظرية، أو حتى أن يبدو أي تقصير أشعر أنني بطريقة ما أستطيع إصلاحه ولم أفعل. كنت أحاول الجبر بالدعاء. رغم كل هذا، إقراؤكما قطعة من النعيم لا أطيق فراقها، ولا أعرف كيف أنأى عن هذا السلام كله. أعتذر عن كل لحظة قسوت فيها عليكما، أو لم أستطع إقراءكما لتراكم أعمال أو لتعب. لا أوفيكما حقكما من الشكر للجمال الذي غمستماني فيه دون أي مقابل.

شكرًا لكل وقفة، لكل سند، لكل جبر، ولكل حل. شكرًا لكل لطف، لكل رحمة، لكل حب، لكل أنس، ولكل مشاركة. شكرًا لكل صباح، لكل فجر، لكل عشاء، لكل أصيل. حبٌّ لا ينقطع، ووصلٌ بالدعاء. 

انتهت قصة الدورة المكثفة التاسعة، وابتدأت قصة جديدة؛ إما برحلة إقراء مؤنسة، أو بإجازة التكليف والتشريف. ❤️

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق