الاثنين، 19 أغسطس 2019

مذكرات حاجّة (صغيرة) 6


نصل إلى منى ولم تبق في أجسادنا ذرة نشطة، نصل وقد غزانا التعب غزوًا فتاكًا دمارًا، نلقي بأجسادنا الهلكى، نترقب وصول الأفواج الهالكة فوجًا بعد فوج، وجوه حمراء، أنفاس متقطعة، أرجل ترتجف لثقل حمل الجسم عليها وهي لا قوة لها، جهد مهلك، لكن له لذة عجيبة لا يعرفها إلا من ذاقها. كنت دومًا حين أتعب أيام الاختبارات أستشعر لذة التعب حين أنظر إلى ما حققت وأسلفت، أو حين أستشعر الهدف العظيم الذي أبذل لأجله أو الأجور التي أجمّعها، لكن لهذا التعب لذة مختلفة، لذة استثنائية لا ينالها مقيم في بلده، بل هي سكينة ينزّلها الله خاصة لأهل المشعر، فتخدر كل التعب فيهم، وتبقى هي مستحوذة. 

نوم عميق بعد تعب شديد، نصحو للفجر، الحمامات أقل ازدحامًا هذه المرة، يبدو أن الحج بدأ يربي الحجاج على الإفساح لإخوانهم ليفسح الله لهم. أصلي، وما إن أسلم من صلاتي حتى ألتفت بوجهي عن القبلة وأضع رأسي على يدي وأنام، يوقظنني بعد قليل لأنام جيدًا في فراشي، لم أتلُ أذكاري اليوم لأنني لم أكن أعقلها، لكن هذه الطمأنينة المبثوثة والرضا العامّ عليّ يفيض مني. أستيقظ متأخرة صباحًا على صوت ضجيج في الخيمة، تقول لي ميمونة قومي؛ الناس يحتفلون بالعيد مع أهلهم في عمان، مكالمات بالصوت والصورة، فرحة وضحكات تتعالى أصواتها، أنهض فأفتح هاتفي لأجده مكتظًا بتهاني العيد، صور المعيّدين منذ الصباح، فساتين البنات وحناهن، دشداشة المهنا وكمته، صور الأسرة الدافئة كلٌّ بزينته، نفرح بالعيد، تتعمق الفرحة وأنت ترى أهلك وصحبة فرحانين، نتناول إفطارنا، تزيد الفجوة في داخلك وأنت ترى مظاهر العيد من بعيد ولست منغمسًا فيه، ترسل كل واحدة صورتها في العيد وأبناءها، يطلبون صورتي، فأصور لهم ثياب البيت التي أرتديها؛ جلابية قطنية ليست جديدة لأنني انتقيت أريح قطن يبرد علي الحر، ولحاف أخضر قطني للبيت، بلا شيء مميز، ولا زينة. فراغ، ولكن السعادة بوجودك هنا بحد ذاتها عيد.  أحدث صديقتي عند الظهر، أسمع صوتها الذي يوحي بأن الدنيا بخير وأمان، وأن اليوم عيد. ليس العيد زينة ولحمًا، بل شعور لا يتغير ولو غاب هذا وذاك.

مِنى، ولا شيء الآن سوى الذكر ومخالطة الناس. يشتغل كلٌّ بأذكاره، تشعر وكأن الخيمة التي تضيق بسبعين امرأة تتسع بالنور الذي يتلى ويضيء، تخجل من نفسك وأنت تجلس لدقيقتين دون ذكر وترى جارك يتلذذ بالقرآن تارة، ويحصن نفسه بالأذكار تارة أخرى. هنا يشع كل شيء ليبث فيك شعورًا إيجابيًا، التلاوات، الصلاة، الابتسامات المتبادلة، الود والمحبة التي تنتشر دون أن يوجد سبب حقيقي لها ونحن لا نعرف بعضنا ولا تجمعنا أي مصلحة. المرأة الكبيرة في السن التي تشاكسني لتنشطني، والرفيقات اللاتي لا يدعنك لوحدك، النساء اللاتي يملأن المكان مرحًا وسكينة في الوقت نفسه، وأولئك اللاتي تجمعنا بهن حسن العشرة، هؤلاء جميعًا ينغرسن في الفؤاد غرسًا لا يشبهه غرس، رفقة الحج، رفقة رحلة العمر التي لا يعلم أحدنا هل يكررها أم هي واحدة تغسّله إلى أن يلقى الله. 

مِنى، رحلة التطهير الأخيرة، بعد أن مرت بك كل المناسك منسكًا منسكًا، ومررت أنت عليها مشعرًا مشعرًا، هل تحركت مشاعرك وأنت تتحرك بين المشاعر؟ وأنت تتوضأ أو تغسل وجهك في حمامات مِنى وتنظر إلى وجهك في المرآة، هل هذا الذي تراه يشبه الذي أتى من بلدك أم أنه مولود جديد قد أزف موعد ولادته؟ مِنى في أيام التشريق، الميقات الذي يثبّت الذي حدث، ويمنحك وقتًا لتستوعب كل ما مر عليك، ولتقرر من تكون، ولتحدد مصيرك؛ أنت الذي جئت من بلدك باختيارك لتختار مصيرك الجديد. هنا تمكث يومين لا تفعل فيهما سوى الذكر والرمي؛ لتربط مصيرك بهما وتتذكر دائمًا أنك ما حييت تحلو حياتك بالذكر، ولو كنت عاملًا فاعمل ضد الشيطان. منى تختم على المواليد الجدد وتسميهم بأسمائهم، وتبقيهم فيها ليومين تطعّمهم فيها التطعيمات التي يحتاجونها لمواجهة العالم الخارجي، العالم الموبوء بعد الحج!

تنام النساء بعد الغداء، ولا أنام أنا، أكتب ويخنقني شحن هاتفي، أحارب لأكتب، أتجه إلى فراشي لأنغمس وأكتب، وإذ بي أسمع قطرات المطر تدقدق سقف الخيمة بعنف، ألتفت وأركض برشاقة بين الفرش المتقابلة المتلاصقة لأخرج، تسمع النساء صوت المطر فيهببن من نومهن كأنما قد بعثن للتو، أخرج تحت المطر بلا وقاية، يركض الناس من الخيمة إلى دورات المياه بمظلاتهم، وأعانق أنا المطر بلا شيء. يبللني حدّ التشبع، أراقب الناس وهم يتراكضون تحته لئلا يتبللوا، أتأمل أزقة مِنى والماء يجري فيها، أعرف أن هذه لحظة استثنائية، مهما انغمر المطر بعدها فلن يشبه أبدًا مطر منى التي تطهر الأفئدة، يأتي المطر ليطهر كل ما بقي في زاوية منسية في القلب فلم يتطهر، كل ما لم يره الناس وبقي عالقًا فيك، كل العوالق تجري مع الماء وتبقيك شفافًا نقيًا، هذا كله إن أردت أنت وسمحت لها أن تفعل!

بعد أخذ ورد في إمكانية خروجنا للرمي بعد فتور المطر الغزير، نخرج عصرًا -متأخرين عن الخطة- للرمي، نمشي أفواجًا وجماعات هائلة من كل بقعة في العالم، أعراق، أجناس، أشكال، عينان متسعتان وأخريتان ضيقتان، أنف كبير وآخر دقيق، شفتان منتفختان وأخريتان صغيرتان، واختلاف ألسنة وألوان، آية عجيبة تعمّق الدهشة، اختلاف لا يفرض ممايزة بل تعارف والتقاء أضداد جوهرها متحد. أعجمي وعربي يجمعهم شعار واحد، لا الدولة ولا القائد ولا العلم، بل لبيك اللهم. نمشي في نفق طويل مزدحم، كلهم وافدون جادون في السير بلا توقف نحو وجهة واحدة، كلهم يرجون الضوء نهاية النفق. كلنا سائرون إلى الجمرات، والآخرة تظهر نفسها مع كل منسك لتذكرنا بالحقيقة الباقية، ﴿وَسيقَ الَّذينَ اتَّقَوا رَبَّهُم إِلَى الجَنَّةِ زُمَرًا حَتّى إِذا جاءوها وَفُتِحَت أَبوابُها وَقالَ لَهُم خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيكُم طِبتُم فَادخُلوها خالِدينَ﴾. نسير ونرجو الله، نرمي الجمرات، نعلن الحرب ثانية ونؤكده، لا رجوع بمنكرات ولا إذعان لغير الله، لا استسلام لمساوئنا، نمشي بلا تخاذل إلى النور الأخير الأبقى.

نمكث في منى نودّع رحلة العمر ونرقّع رتوق التقصير فيها، مهما أديت تشعر أنك مقصر وأنه كان ينبغي عليك أن تفعل أكثر من هذا. الرحلة الأسمى على مشارف النهايات، لا تكاد تصدق أن تلك المناسك كلها مرت عليك خفيفة على قلبك يسيرة عليك، ولا تصدق أن الأيام التي كنت تظنها ستطؤك وطأتها. مرت أيام شاقة، لكنها على قلبك تخفيفًا وتيسيرًا. ما كنت أظنّ أن الله يمنحني الرحلة التي قد لا أستحقها بعد، وقد منحنيها. ما منّ الله علي بشيء كهذا، شيء لا توفيه الكلمات، ولا حتى الدموع، ولا العبرات. بالأمس كانت النساء تعد الأيام للعودة والخروج من منى، واليوم يقلن أن لو بودهن لا يتركن هذا المكان أبدًا.

تمضي يومين في منى لتخرج بعدها منها مختلفًا عما دخلت، تجلس فيهما مع نفسك وسط الناس، تغدو ألطف وألين، يصبح الأمر عاديًا ألا أجد نعالي التي يستخدمها الجميع كأنها وقف لا نعل خاص، أنتظر دوري لأن كل ما لي ليس ملكي، ولأنني إن لم ألن جانبي فلا خير فيّ. تصبح عودًا يابسًا، وتبيت مخضرًا لينًا بعد أن بللك قطر منى. تخرج كما لم تدخل، متربيًا بأخلاق الحج، مقتبسًا نورًا لا يحمله أحد في بلدك إلا من جاء معك من منى. تخرج منيرًا كما لم تكن قط، نظيفًا تشع لمعانًا، ومولودًا جديدًا! 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق