الجمعة، 9 أغسطس 2019

مذكرات حاجّة (صغيرة) 3

بكل القلب والروح والجوارح لبّيك. الحب والتسليم والإذعان والشوق والتهافت كله لك. الروح والجسد، القلب واللسان، النية والعمل، ليست إلا لك. لبيك رجلًا برجل ويدًا بيد، لبيك وإن وهن الجسم، لبيك وإن فاض التعب، لبيك وإن غصت الأرض، لبيك وإن ضاق النفس وضاق الصدر، لبيك حبًا وتسليمًا، والخير كله بيديك!

أفتح الخريطة وأترقب، فأجدنا قد تجاوزنا الحدود الحمراء في الخريطة، دخلنا مكة! رهبة مع دهشة، نمر في الطريق فأنظر إلى الجبال، أعرف هذا الجبل، هذا يشبه الذي أعرفه، وهذا أتذكره جيدًا! منغمسة في لقاء الجبال جبلًا جبلًا بعد طول فراق، كنت أراقب النفق المكتوب أعلاه بخط عريض "واذكر ربك إذا نسيت" وبيننا ألفة المغترب لا الغريب، أراهم قد تجمعوا على جهة وأخذوا يصورون وأنا لا أدري ما الحاصل؛ إذا به الحرم على يميننا وأنا على اليسار. هل عدت بعد سنين إلى دياري؟ أم هو الحرم المشمول بـ"وضع للناس" -أي أن البيت وضع خاصًا للناس جميعًا-؟ هذا المكان يشبهني جدًا ولو لم أولد فيه، كل جبل هنا تربطني به صلة قرابة من قريب أو بعيد، كل حمامة هديلها يناشدني عن أخباري ويخبرني عن أشواقه. هاقد عدت يا مكة، هل تشتاقين إلي كما أشتاق إليك؟

نضع رحلنا بعد طول شدّ، وأي وضع للرحال أحسن من هذا؟ نأكل سريعًا، لنهفو إلى البقعة الأطهر. نخرج، نجتاز شارعًا شارعًا نفقًا نفقًا ونحن نرجو العناق الأعمق. نصل إلى حيث تقف الحافلات، يجب أن نعبر النفق مشيًا لنصل إلى المسجد الحرام، ذاك النفق الذي يطول ويقصر بنا معًا ونحن نعبره بلهفة، مشت كلٌ مع محرمها، ومشيت مع سليمان ممسكة بيده مشيًا وددت لو لا ينفد أبدًا، ولو أن كل سعينا في الحياة يكون كذاك، من الطهر إلى الأطهر، من الجدب إلى الحياة، من المحك إلى النجاة، من الحضيض إلى السمو. الناس يسعون من كل فج عميق في ذاك النفق، يضج بهم مشاة محرمين ومحلين، آيبين جميعًا إليه. ينتهي النفق، أقف وعبراتي تسابق، كم من السنين كان يجب عليّ أن أقطع حتى أصل إلى هذه اللحظة الخالدة؟ وقفت لا أطيق المشي أكثر؛ لا لتعب بل لرهبة المكان. كل قطعة رخام هناك تحتويك، طول المآذن يربت عليك ويحميك من فوقك، والبياض يغشّيك ظاهرًا، فأنى لا يغشّيك باطنًا؟

ندخل واللهفة تسابق خطواتي، وبي ارتباك عاشق لم يلق عشيقه زمنًا، كيف سأكون حين أراها؟ هل سأتصرف جيدًا؟ هل سأعبر بلباقة عن شوقي؟ هل سأتشكى لها كل ما فعلت بي الأيام دونها؟ مضيت وكان اللقاء الذي يجاوز وصفه الحروف. ننزل إلى صحن الحرم؛ المكان الذي كان آخر عهدي به ليلة -قبل ست سنين- بتُّها وحدي بين صلاة وتأمل، وكانت من أكثر الليالي رسوخًا في حياتي. بالطبع لم أكن لبقة ولم أعبر عن شوقي كما ينبغي. نشرع في الطواف -الأصعب في حياتي-، كان شعور التمسك بالبيت الذي أنتمي إليه أعمق من أي شيء؛ لا تمسكًا بحجر وكسوة، بل تمسكًا بثوابت وأسس وضعها الله لنعيش نحن أحسن. مهما نبتعد عن البيت، كنت أتشبث به بروحي تشبث الغريق، لأستطيع من بعده الحياة والعطاء والنفع للعالم بأسره. الأمان تمثل في سليمان وهو يطوف من خلفي ويحميني بيديه ليدافع عني التصاق الرجال بي. لم يكن التدافع المهلك، ولا الروائح المزعجة، ولا ضيق النفس، ولا الإرهاق والدوار، ولا إزعاج الطائفين بارتفاع أصواتهم بغير الذكر ولا مزاحمة الطائفين غير المحرمين ولا تصوير بعض الطائفين ومكالمات الفيديو أثناء الطواف؛ لم يكن هذا كله لينزع غرسي العميق في صحن الحرم ونحن نطوف، لم يكن ذلك كله ليحجبني عن الاستشعار الأرسخ، والدعاء الأدنى إلى القلب. في الشوطين الأخيرين، كنت ألقط أنفاسي وأنظر إلى السماء للإغاثة بشيء من هواء أو برودة تعيد روحي إلى جسدي. كان الهواء ينقطع عند الحجر الأسود لشدة الزحام، ثم يعود فجأة هواء بارد عند الركن العراقي الذي أستنشق عنده هواء يكفيني للشوط القادم. كان الجسد يهوي بين الزحام، والروح تصعد وتنتشل من بين الزحام. الجموع غفيرة، لكن الله يأخذ بيدي ويبعث في روحي نشوة كأن لا أحد سواي هناك.

ننتهي من الطواف، نستغرق أمدًا لنخرج من أمواج الطائفين المتلاطمة وكلٌ يدافع أكثر من غيره، نريد صلاة ركعتي الطواف فلا نجد لنا موضع جبهة، بعد أن وجدنا بقعة بالكاد تكفينا للسجود، لم أجد قوة للقيام والصلاة إذ أمسى جسدي خرقة بالية بعد الطواف، أرتاح لدقائق، ثم أقوم لصلاة رغم كل الإرهاق كانت استثنائية. "قل يا أيها الكافرون" في الركعة الأولى هذه المرة إعلان للحدود الواضحة بيني ومن لا يؤمن بما أؤمن به، وأن الله كلمته هي العليا وما دون ذلك فلا مجال للتنازل فيه. لبيك ولو كره الكافرون، لبيك ولو كره المجرمون، لبيك وكل ما سواك هباء. سورة الإخلاص في الركعة الثانية دعوة للإخلاص، لأن تتيقن أن الله وحده هو الصمد، وهو الذي لم يلد ولم يولد، وهو الذي تعالى وتقدس عن كل شيء، وهو الذي يستحق الإذعان والتسليم وحده. الخضوع مذلة إلا هاهنا، إذ بخضوعك تتجاوز كل الاعتبارات وكل الحدود، وصولًا إلى الحي القيوم، الصمد.

بعد راحة بسيطة لا أجد فيها سبيلًا إلى زمزم، السعي الدؤوب يبدأ الآن. السعي الذي أزداد فيه تعبًا مع كل خطوة هو الذي يجعلني أشعر بهاجر عليها السلام وهي تموت مع كل خطوة كانت تسعى فيها لتجد ما يحيي ذلك الرضيع الذي يتقطع بكاءً. كم تمزق قلبها من بكائه وهي لا حيلة لها ولا قوة؟ كيف استطاعت أن تترك زوجها يدعهما في وسط لامكان دون أدنى مقومات للحياة وهما بذاك الضعف؟ كيف دعته يرحل وهي أضعف من رضيعها وهو أضعف منها، وإن بكى بكت هي ألف مرة قبله؟ كيف امتلكت ذاك اليقين الراسخ والإيمان المتجذر الذي ما كان ليذرها وحدها منكسرة، بل هو نبع القوة التي جعلتها تدك الأرض بين الصفا والمروة حتى جاء الفرج. مع كل خطوة وأنا متعبة كنت أفكر، أنى لي بإيمان كهذا؟ أتضعفني الحياة عن السعي والله أمرني به حثيثًا؟ لا إله إلا الله صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده. الحق كل الحق، والقوة كل القوة، بك ولك يا شكور. 

بعد العودة والتحلل عند الفجر، شعري بات أقصر، وآمل أن مساوئي قصرت معه. شعور بالطهارة غامر، وشعور أغمر بالعجز والفقر. إن لم تعننّي فمن؟ إن لم تسخر لي ألطافك فمن أين؟ إن لم تغفر لي وترحمني لأكونن من الخاسرين. كيف تغمرني بكل هذا اللطف والروحانية وخطاياي تخلدني إلى الأرض؟ كيف تنتشلني من لجّ غرقي برحماتك؟ 

بعد ذا الجهد، نومي يتخبط تخبط عشواء، ولم أعد أستغل الثواني كما يجب. مع تأنيبي لنفسي، كانت استجابة الله لدعاء الصحبة الصالحة في الحج بعد خبر القبول، جاءت ميمونة التي عرفتها منذ أيام لتزجرني على تقصيري وتبدي استعدادها للأخذ بيدي إن عقدت المعاهدة على الجهاد. حتى حين أكون سيئة، يرسل الله لي من يقسم ألا يدعني حتى أؤوب، من عمان الصحبة الخيّرة، وفي عقر مكة. لم أترك أهلي وداري إلا لأولد من جديد، يا مزنة، هلّا استخدمتِ النعمة هذه وعملتِ لتولدي نقية، دون أي أوزار، وعلى الفطرة التي تجانب الكسل والركون؟ هلّا كنتِ مصدر سعادة وفخر وأنتِ تكبرين بعد الحج رضيعة ففطيمة فطفلة ففتية فشابة؟


مكة تلفني بالطهر والدعاء، مكة تحثني لأستغل كل ثانية وأن أجهد نفسي لأتطهر. مكة يؤذيها بعض سلوك أهلها كالتصاق الرجال بالنساء دون أي مراعاة أو كتوسيخ طرقاتها بلامبالاة. مكة درب رسمه الله لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا. هل تريد الأمة؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق