السبت، 17 أغسطس 2019

مذكرات حاجّة (صغيرة) 5

ننفر من مزدلفة إلى مكة، صباح استثنائي؛ صباح العيد في مكة، صباح يتمناه مليار، ويحصل عليه بضع ملايين، صباح تبدو الشمس فيه مشرقة وسعيدة، ليست لاسعة كعادتها، تربت على أكتاف الحجاج وتهنئهم بقرب التمام. صباح مزدحم جدًا لا تكاد تتحرك فيه المركبات في شوارع مكة، إنه العيد الذي يخرج كل أحد من بيته احتفالًا به. يستغرق النفير من مزدلفة 5 ساعات أستغل نصفها في نوم عميق تخفيفًا من الله بعد إرهاق عظيم، أصحو فأجد شوارع مكة مبتهجة باكتظاظها، ترحب بضيوف الله؛ الضيوف الذين تجاوزوا كل المناصب ليكونوا في ضيافة الله وحده، فأنى تضيق بهم مكة؟ نمشي بحقائبنا، سليمان ليس هنا ليخفف عني ثقل حقيبتي، يعرض علي أحد الرجال أن يحملها عني ويصر على قوله، أستسلم وأعطيه. هنا لا اعتبارات شخصية، بل مسارعة في الخيرات، ويد واحدة تمد إلى الجميع؛ لا إلى من هو مسؤول عنهم فقط. نصل إلى السكن، نضع أحمالنا لنتجه بعدها لرمي الجمرات. 

فرحة عيد الحج رمي ونحر وتحلل وإفاضة، نخرج للأولى ساعين ملبين، نحمل معنا حصانا الصغير في كيسته الحمراء المخملية، أستعد لرمي مزدحم مكتظ وأفكر كيف أنجو من فلع في رأسي، لكن ما إن نصل نجد الأمر ميسرًا خفيفًا، أرمي سبع حصيات جمرة العقبة الكبرى وأخرج بسلام. شعور الرمي استثنائي لمس كل ذرة في جسدي وهو يخرج من يدي، أن تعلنها حربًا واضحة؛ ﴿إِنَّ الشَّيطانَ لَكُم عَدُوٌّ فَاتَّخِذوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدعو حِزبَهُ لِيَكونوا مِن أَصحابِ السَّعيرِ﴾، ألا ترمي بحصاة وراء حصاة، بل ترمي خطاياك، ترمي فشلك، كسلك، أخلاقك السيئة، ترمي سكوتك عن الحق، وتهاونك فيما تعلم أنه ليس لمصلحتك، ترمي جهلك الذي تتجاهله، وعلمك الذي تتفاخر به مهما كان حقيرًا، ترجم كل مساوئك، وتخرج بكيسة أخف، وقد صرت صارمًا في قتل كل ما لا يجعلك تبني بجد. مع كل حصاة صغيرة يسميها الشرع جمرة، كنت أحرق كل ما لا يجعلني فردًا صالحًا مصلحًا نافعًا، أشعر أنني أخف وأفضل بعد أن رجمت أنانيتي، وخرجت مع الجماعة، كلنا ضد الشيطان.

بعد خروجنا، أرسل مباشرة إلى سليمان الذي ينتظر خبرنا في المسلخ أن انحر عني، وعن فلانة وفلانة وفلانة وفلانة وفلان، يرمي بعدها الرؤوس رأسًا بعد رأس، وينبئني أن تحللوا جميعًا. وهم يرمون الرؤوس، لست متأكدة إن كانوا يرمون رؤوس الدواب التي سخرها الله لنا من شعائره لنذكر اسمه عليها، أم كانوا يرمون برؤوسنا القديمة التي لم يربِّها الحج. ينحرون لنتذكر أننا خلفاء الأرض المسخر لنا كل شيء لنذكر اسم الله عليه، ونستخدمه للإعمار. سخر الله هذا الهدي لطعام البائس الفقير، ليذكرنا ألا ننسى دورنا الحقيقي حتى ونحن نبذل قلوب أموالنا للحج، وأن يكون جزء منها لعالم أفضل بفقر وجوع أقل، عالم أكثر توازنًا. يجب ألا ننسى ونحن نقدم الهدي أن هذا كله ليس لمنفعة ينالها الله، ولا ليفتخر بنا، بل هو ما يحدثه نحر الهدي في قلوبنا نحن، وأن نلمس نحن جدوى أن نعيش في عالم متوازن، وأن نهنأ نحن بحياة متزنة سعيدة. ونحن ننحر، لا بد أن نتذكر الأضحية الأولى؛ حين قدم إبراهيم قطعة من فؤاده، وعزم على نحرها بيده لله. لم يكن هناك سبب منطقي يدعوه لفعل ذلك وهو الذي كان ينتظر سندًا له يسير على نهجه، ثم بعد أن نضجت الثمرة وقرت العين، يقدمه لله وينحره بيده. على كم وسواس تغلب سيدنا إبراهيم؟ وكم نزعة فطرية وصرخة فؤاد ومنازعة عقل هزم ليخضع لله دون أدنى نقاش؟ هل سلمت لله إلى الحد هذا الذي جعل رجلًا واحدًا عن أمة كاملة؟ من كم من التعلقات والمخاوف والتوجسات والقلق أحتاج أن أتخلص لأكون مثله؟ هل سأضحي بكل شيء ليكون أولادي أتقياء؟ 

 نرجع إلى السكن، نأكل ما توفر من العرسية والحلوى لنحس برائحة العيد، نقص شعور بعضنا لنتحلل، إنه العيد يا جماعة! إنه الاستحمام بعد يومين من الانقطاع! إنه لباس العيد، الأرض لا تسع فرحتي لمشاعر التمام، الأرض كل الأرض لا تحتوي مشاعر مشتاق أتى ملبيًا محبًا، أتم المناسك وهنًا على وهن، لكن التمام ينسيك كل التعب، رؤية الوالدة الواهنة التي رأت الموت مولودها؛ تنسيها كل شيء، أنسها به يمحو كل ما سلف ويعفو عنه. أنظر إلى نفسي في المرأة فأفهم معنى حديث "الحاج أشعث أغبر". هل هذه أنا؟ ربما هذه المرة الأولى في حياتي أراني بهذا الشكل، أمسح على عينيّ، أربت على وجنتيّ، أمرر يدي على شعري، هذا شكل لا يحبه الناس، لكن الله يحبه، هذه هي الهيئة التي يريدها الله؛ لأشعر بعدها بلذة التحلل والتطيب والامتشاط والظهور بالهيئة التي يحبها الناس. يريد الله مني أن أكون بهيئة لا يحبها أحد، ولا أحبها أنا، ليمحص صدقي؛ هل أقصده وحده؟ في القبر، لن أمشط شعري، ولن أغتسل، بل أتوسد التراب سنين دون أن يسأل عني أحد. هل كانت هذه إعدادًا لتلك؟

أغتسل الاغتسال الأعمق في حياتي، ألبس ثياب العيد، أفرح بها وحدي في غرفتي لساعة، ثم أخلعها لنؤدي طواف الإفاضة. هذا العيد، لم يكن هناك بخور منذ الفجر، لم أكتحل، لم ألبس ذهبي، لم أتزين كالعادة، هذا العيد لم أطيّب سليمان بأجود عطر منذ الفجر، لم أجمع عيديات، لم أصلِّ العيد، لم أصبّح على أهل سليمان منذ الشروق وكلٌّ يخرج على قومه في زينته، ولم أعيّد على أمي وأخواتي وأبي وهبة منذ الصباح، هذا العيد لا أهل، لا أصحاب، في بلد غريب، لوحدي لأن سليمان مشغول بالهدي وبغيره، ولا حناء ولا دفء عائلة. هذا العيد فارغ من كل معاني العيد المعتادة، لكنه ممتلئ بشيء آخر، ممتلئ بمشاعر الحج العظيمة، ممتلئ برجاء القبول، وتهاني بنات أعمامي وصديقاتي تلفني. هذا العيد، أخبر أمي أننا قد أتممنا وتحللنا الأصغر، تبارك أمي وهي تبكي فرحًا؛ لأن الله بلغها اليوم الذي تحج فيها صغرى بناتها، تبارك أختي مباركة السعيد لأجلي، الذي يغبطني ألف مرة ويرجو الوصول هنا اليوم قبل الغد. اليوم عيد بعيد عن كل الماديات والعادات، اليوم عيد استثنائي؛ مرة في العمر!



نتغدى سريعًا ونبدل ثياب العيد، لنذهب إلى طواف الإفاضة، نصل إلى الحرم عصرًا والسماء ملبدة بالغيوم، "يا رب مطرًا ونحن نطوف"، ندخل المسجد الحرام، نصل إلى قرب الصحن، أصلي العصر، أسجد فأشم الطيب الذي تتضوع به هذه البقعة الأطهر، الذي ينسيك نتن العالم؛ ولو مؤقتًا. أسلّم من الصلاة، يبدأ هطول المطر، إنه الله القريب الرحيم. نشرع في الطواف، كلٌّ ومظلته، أما أنا فأريد التعرض لرحمات الله دون أي حائل، أريد استشعار لطف الله المتنزل وعنايته إن أنا أحسنت. تبتل الأرض البيضاء، يزيد هطول المطر، لا أستطيع رفع رأسي عن النظر إلى الأرض وأنا أطوف محاذرة في كل خطوة، بصري على الأرض، وقلبي على السماء. أوجه قلبي نحو الركائز، أوجهه نحو أبي إبراهيم عليه السلام وهو يرفع القواعد، وهو لا يكتفي بأن يدعو لنفسه وولده، بل يدعو لأناس من بعده لا يعرف عنهم أي شيء، يريد لهم الهداية والخير الذي يغرق فيه هو وهو يسلم وجهه لله، وهو يعمّر العقول والصروح. يقول الله ﴿وَمَن يَرغَبُ عَن مِلَّةِ إِبراهيمَ إِلّا مَن سَفِهَ نَفسَهُ وَلَقَدِ اصطَفَيناهُ فِي الدُّنيا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحينَ﴾ فنسفه أنفسنا جميعًا دون شعور، نسفهها حين نطوف دون ذكراه، أو حين نحج بغير رفقته، أو حين نحيا دون بتشتت في الحياة، دون تركيز على الثوابت التي وضعها الله لنا. بعد ما مر علي من مناسك، كنت أركز في دعائي على الأمة المتعبة، أحاول والله لكن حتى محاولاتي متعبة، فأتكئ بكل ثقلي على الدعاء. 

إلى المسعى، أشرب عبوة لبن تعطيني قوة للإكمال، نصلي المغرب في المسعى، ثم نبدأ السعي. السعي هذه المرة بين قوة إيمان هاجر، ورجاء القبول والخوف من عدمه. نسعى بين الصفا والمروة، الحجر الذي لا ينبت عليه شيء* والحجر الذي يوقد النار**، نسعى من اللاإنبات نحو إيقاد النار، وصنع الحضارة، وإيقاد النور في الأمة. هل يكون سعينا مشكورًا فتظهر نتائجه؟ دعاء عميق أردده في الطواف والسعي: اللهم استعملنا ولا تستبدلنا. اللهم اجعلنا من قادة نهضة هذه الأمة. اللهم اجعلنا من المستنهضين المصلحين الفاتحين. اللهم ارزقني وسليمان ذرية طيبة ترضع الإصلاح مع الحليب وتحدث التغيير في الأمة. اللهم نحن، اللهم ذريتي، اللهم الأمة. لا أنسى مع هذا كله شغف هاجر في السعي حثيثًا حتى تصل وتنقذ حياة ذلك الباكي. هل أنقذ بسعيي حياة الباكي بداخلي؟ هلّا أحييت به الأمة الباكية بشغف هاجر؟

ننهي الطواف والسعي ونخرج عند صلاة العشاء، ألتقي بابنة عمتي التي لم ألقها منذ مدة في ساحة الحرم، تسلم علي وتسألني عن أهلي جميعًا، تخبرني أنها كانت تبحث عني وترجو لقائي، توصيني بالسلام، وتنصرف. في الحافلة يأخذ الوصول مدة، نتسلى بشيء من الأحاديث ونأكل ما يسد جوعنا، نصل، نتعشى، ثم نجهز أغراضنا وننتظر الإشارة لننطلق إلى منى مجددًا، المكان غير المريح ماديًا، المترف بالراحة نفسيًا وفعليًا. نذهب هذه المرة مشيًا، ويكون هذا تحديًا جديدًا لم نحسب له حسابًا. 

نخرج بعد الحادية عشر ليلًا، نمشي ونقول رياضة دون أن نعرف ما ينتظرنا، نخرج وصدري ضيق، أسمع مقطعًا لأختي وهي تلقن ابنها تحيتي فيملأ المكان ضحكًا، أعترف أنني بكيت هذه المرة. بكيت لأن هذا العيد غريب، رغم أنه عيد تملؤه مشاعر الحج، إلا أنه عيد بلا عائلة. بكيت لأنني أفتقد دفئًا كان يغمرني دون مقابل، ودون حتى أن أدرك أنه يدفئني من برد الحياة، ويبرد علي حرّها. أمشي وأبكي دون أن يلاحظني أحد، وأحاول تهدئتي ما استطعت، أهدئني فأهدأ. نمشي ونمشي ونمشي دون أن نصل، كلما ظننا أننا وصلنا تبين أننا لم نفعل بعد، كنا نواسي أنفسنا، وأنا أشعر برجلي تتجرح وأنا أمشي، لكنني لا أملك سوى أن أمشي. بعد إجهاد شديد ومشي يستمر ساعة، يقول أميرنا: ما مشينا إلا نصف المسافة. فنهبّ جميعًا: إن كان هذا هو النصف فكيف التمام؟ يوم صعب، تمشي وأنت لا تملك في جسدك قوة والتعب يفيض منك، لكنك تمشي؛ لله! يقول أحد الرجال: "الحج جهاد يا جماعة! استمروا بقوة، هذه هي مشقة الحج وجهاده، ستتذكرون هذا اليوم وتحمدون الله عليه، هذا أشق يوم في الحج وقد أوشكتم على إتمامه، تقبل الله جهادكم وسعيكم!". نصل بعد ساعة ونصف من المشي المجهد الذي ما أتى إلا بعد يوم حافل بالجهاد والمناسك من مشي إلى مشي، فتقول أحد النساء أننا مشينا اليوم ما مجموعه 27 كيلومترًا! هل كنا لنطيق هذا لولا أننا نلبي؟ هل تطيق هذا نساء كبار في السن ما أتين للهو ولا لعب بل لله؟ ينتهي يوم الجهاد، وينتهي يوم النحر، وينتهي يوم تجاهد فيه جهادًا كبيرًا وتدوس على نفسك لتصل، حتى إذا ما وصلت نظرت إلى الوراء وقلت: الحمدلله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. الحمدلله الذي قوانا وأيدنا، الحمدلله الذي يأخذ بيدك ويقويك ويعينك لتصل أنت إليه، ومن المحتاج للوصول إلا أنت؟


__________
*المعنى اللغوي لكلمة صفا من لسان العرب. 
**المعنى اللغوي لكلمة مروة من لسان العرب (مرا).

هناك تعليقان (2):

  1. تقبل الله منك يارب، وحقق لك كل ما دعوت به🌺

    ردحذف
  2. أقف اليوم بين أهلي واتذكر تلك اللحظات الي تصفها كلماتك مزدلفه الجمرات الهدي العيد الافاضه ومنى كل ذلك حدث في يوم واحد مر سريعا اتذكر الان كم كان شاقا وجميلا
    نسأل الله أن نكون ممن تغشتهم الرحمه وتم قبولهم من العتقاء في تلك الرحله التي لن تنسى
    احبك في الله اختي الصغيره مزنه

    ردحذف