الأحد، 4 أغسطس 2019

مذكرات حاجّة (صغيرة) 2


 شعور بالغربة يجتاحني -للوهلة الأولى-، كلهن هنا من السويق، وكلهن معارف وأصحاب، وكلهن يتحدثن بحماس وشوق منذ انطلاقنا، وأنا ابنة الجيران التي تبحث عن فرصة تسنح لتتقدم إلى الكراسي الأمامية، إذ شعوري بالغربة يكفيني ولا أحتاج مزيدًا. تعرفت إلى التي بجانبي؛ اسمها فريدة. ما وجدت فرصة إلا وتقدمت إلى مقعد ثنائي خالٍ، هذا ما كنت آمله تمامًا، الحمدلله اللطيف!

ما إن انتقلت حتى جاءت فريدة تسألني عن سبب انتقالي وما إذا كنت انزعجت منهن، فنفيت وقلت أن الأفضل لنا أن نتوسع ما دامت هناك سعة في المكان! وفي داخلي أضيف: والقلب كذلك يحتاج مساحة. منذ تلك اللحظة والنساء جميعًا يحببني ويعرفن اسمي وينادينني به، وما إن أختفي ثوانٍ عن أنظارهن حتى يشرعن في مناداتي والبحث عني، يعاملنني كأخت صغرى أو كابنة لطيفة. يسعدني هذا جدًا؛ ولكن ما زلت إذا رنا ناظراي إلى حملة أخرى لباس نسائها لباس شرقي، يهف فؤادي وأشعر أن هناك انتمائي. جيد أن تخرج أحيانًا مما تنتمي إليه لتتسع، خصوصًا في رحلة التجرد هذه!

قالت لي أختي أن الطريق سيكون شاقًا ومهلكًا للجسد، وأن قدميّ ستتورمان بشدة من طول الجلوس، قلت لها: لا تقلقي الأمور طيبة! ثم في ثاني يوم من الطريق قالت لي: هل فهمتِ ما كنت أعني؟ نعم والله فهمت. كانت المشقة تطؤني ألف مرة في كل لحظة من لحظات الطريق الطويل، ذاك الذي استغرق 42 ساعة. مع توقفاتنا الطويلة المتتابعة، لا زال الوضع شاقًا، لا زلت أنام فأنتقز من نومي إما لحر أو لألم عظام، فأجد قدميّ قطعتَي كعك منتفختين. عند الشروق الأول خرجت من البيت، صورت الغروب الأول في الإمارات، فالشروق التالي في السعودية، فالغروب التالي في السعودية. كانت الساعات تمر كأنها الدهر، والإرهاق يلف كل شيء حتى غدت القراءة -التي بدأتها بقوة وحماس- مستحيلة مع الجوع والألم والإرهاق. كلما توقفت الحافلة نزل الحجاج لدورات المياه، ونزلت مزنة كأنها شاة مسرّحة ترعى لئلا تتحجر عظامي وبطني. كنت أشتكي كثيرًا التعب فتزجرني أمي أن لا تضيعي أجرك، لكنني لا زلت أشتكي.. لم يهوّن عليّ من هذا كله إلا ﴿وَأَذِّن فِي النّاسِ بِالحَجِّ يَأتوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأتينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميقٍ﴾. كيف كانوا يسعون حبًا حتى لو على ضامرٍ هالك تحت شمس محرقة وزاد قليل؟ كيف أعمى عن الخير وأنا في رحلة يود آلاف لو يموتون فيها من المشقة ليصلوا؟ إذا صح منك الود فالكل هيّنٌ يا رب.

وصلنا بعد 42 ساعة إلى المدينة، توقفت كل المشاهد لحظة ونحن نعبر الأضواء الخضراء التي تعبر عن حدود المدينة المنورة. كنت أنود قبلها، لكن ما إن وصلنا طار كل شيء. كنت أراقب كل إنسان وكل شارع وكل عمود إنارة. كان هناك شعور أن كل شيء منير أكثر من العادة. وصلنا إلى الفندق والمشاعر تتخبط، العمران آسر، فيه شيء من روح المكان الذي أنا منغمسة فيه حالًا. وصلنا منهدّين، فلم يكن خيار سوى النوم رغم أنني أعلمت سليمان بأننا سنخرج لنتمشى قبل النوم حتى أستعيد شيئًا مني وأرتب نفسي. كنت أدعو بالرفقة الطيبة الصالحة، وأن يسخر الله لي خير الرفقة في السكن في المدينة، وقد كان. زميلاتي في الغرفة مريحات جدًا ولطيفات، اندمجنا سريعًا ولم تعد بيننا حواجز، والحمدلله!

إليك،
أنا خجلى منك، وآسفة. آسفة لأنني وصلت عند الباب المغلق للروضة ووقفت عنده ساعة ونصف في ازدحام شديد حتى ضاق نفَسي وعاد إلي ألم الجيوب الأنفية الذي احتجت إلى أسبوعين لعلاجه ثم قررت بكل جُبن أن أنسحب. لم أكن أريد ذلك فعلًا لكنني اضطررت مراعاة للنساء الكبار معنا اللاتي تعبن وتنتظرنا رحلة شاقة من الفجر. كانت نساء يقلن ونحن وقوف: قليل في حقك يا رسول الله وقوفنا. والله قليل. لا يعدل هذا ولو ذرة مما فعلته من أجلنا. كنّ صادقات، وكنت مؤمنة بذلك، لكنني انسحبت، مضطرةً والله! :") أعلم أنني وقحة وأنا أقرر ألا أنتظر ساعة أكثر وأنت الذي شقيت 23 سنة ثقيلات عليك، قريبات إلى قلبك.
انظر إلى الأفواج التي تتزاحم تنتظر فتح البوابة، انظر إلى الشعوب الشتى التي أتت من كل بقاع الأرض 
لأجلك. أعلم أننا جميعًا لا نساوي شيئًا أمامك؛ أنت الذي كنا نحن نؤرقك، وكنت تقلق علينا أكثر من قلق أم على ابنها. كنت تدعو لنا ليل نهار وتأمل أن نكون شيئًا جيدًا، ألا نكون عالة على الأقل. هل غدونا كذلك؟
حين دخلت لأول مرة، كنت أتخيل أن أدخل المسجد فأجدك هناك؛ جالسًا وحولك أصحابك، تفيض نورًا وحنانًا عليهم. كنت أتخيل أن أدخل فتستبشر بي، وتقرّبني في مجلسك، كنت أتخيل أن أسمع صوتك، أو أن أكحّل عينيّ بلمحة منك، أو أن أشم رائحة طيبك قبل أن أدخل حتى، طيبك الآسر الذي لا يشبه عطور الرجال اليوم. كنت أتخيل، وكان يبكيني خيالي، وأنت دومًا حاضر ولو لم تكن..
وأنا أمشي إليك وإلى مسجدك، أتلفت حولي؛ هل هنا بركت القصواء؟ هل هنا كنّ بنات بني النجار يلعبن فتمر عليهن وتداعبهن؟ هل في تلك الزاوية كنت تمشي وأنت جائع؟ وددت لو تجيبني الأرض لألثمها وأحتضنها إن كنت قد وطأتها.

كنت أتلو "محمد رسول الله..." وأنا أتخيلك قربي. أتخيلكم وأنتم رحماء بينكم، ركعًا سجدًا تبتغون فضلًا من الله ورضوانًا. كنت أتلوها مرارًا وأصور مقطعًا والبشر يمشون في ساحة حرمك. لا أستطيع وصف الشعور.
حبيبي، أكاد أذوب وأنا أتصورك عزيزًا عليك ما عنتنا حريصًا علينا. لو كنت هنا، هل كنت ستعد لي زيت الزيتون والعسل لأشربه قبل النوم لأتقوى للحج؟ هل كنت ستشحنني إيمانيًا وتهيئني للحج؟ هل كنت ستطوي عني مشقة السفر ما استطعت لأنني أعز عليك؟ أعلم أنك الرحمة كلها، فمهما تصورت لا أوفي.
لا زلت أشتاق إليك، أريد لقاءك. هل لو لقيتني ستقول أنك فخور بي؟ هل تعلم عني الآن وعما أفعله؟ هل أنت راضٍ عني؟ هل ستخبرني أنني فرد نافع رافع لهذه الأمة أم مع غثاء السيل؟ أنا سأخبرك أنني أشتاق إليك، وأنني أحبك جدًا، وأنني أحاول بكل ما أملك ألا أكون عالة، وأن أكون فاعلة نافعة مستنهضة لأمتك. هل سيسعدك هذا؟ أظنك كنت تسمعني اليوم بين العشاءين قريبًا من روضتك ونحن نتلو القرآن تضرعًا، كنت في الجنة وأنا أستشعر قربك وهن يتلين ورائي تلقينًا. آمل أنك كنت قريبًا، بل أنا قريبة منك.
 هل تعلم؟ حين أعلّم القرآن فيثقلني هم المتعلمات أو أعاني ما لا أملك إصلاحه في نفوسهن، أتذكرك دومًا وأنت تحمل هم أمة كاملة ويثقلك الهم ويمرضك ويقعدك ويكاد يودي بك وأنت لا تبالي. أتذكر وجعك ألف مرة وأنت باخع نفسك على آثارهم بلا جدوى. تمزق فؤادي وأنا أفعل لا يساوي شيئًا مما كنت تقاسيه. أنا آسفة عن كل من آذاك، هلّا كنتُ جبرًا لفؤادك الموجوع -وإن كنت عاجزة-؟
حين صعدت على جبل الرماة اليوم، كنت أفكر، لو كنت معك يومها هل كنت سأكون على جبل الرماة أساسًا أم سأكون مع خالد؟ ثم لو كنت معك، هل كنت سأنزل؟ وكم من الوجع كان سيلفني لو رأيت وجنتيك مخترقتين ولنزعهما تسقط ثنيتاك وأشعر أنني السبب؟ أنا أعلم أنني إنسان سيء الآن، هل سأكون بهذا السوء؟ وإلى أي مدى سأكون لامبالية وأنت لا تبالي بقتل نفسك لأجلي؟ هل كنت لأكون حمالة الحطب مثلًا؟ سؤال مرهق. حسنك يطغى فلا يملك إنسان سوى الإيمان بك، لكنني عنيدة!
أنا لا أدري ما أقول بعد، لكنني رغم كل مساوئي أحبك وأشتاق إليك. حين زرت دارك شعرت أن الشوق لم يبرد، بل كما قال الشيخ محمد الحسن الددو:
"ما زرت دارك في شوق يؤرقني 
إلا تزايد عندي الشوق واتقدا!"
أسأل الله ألا يحرمني رؤيتك. أحاول أن أكون مزنة التي تحب، أحاول أن أجاهدني لأحسّن خلقي لأتقرب إليك، وأحاول أن أعلّم القرآن وأتعلمه عسى هذا يقرّبني إليك! أي خير أرتجيه إن مُنِعت رؤيتك لسوئي؟
خرجت من دارك، لكن أظنني نسيت فؤادي هناك. هل أستطيع العودة في أي وقت أراني قادرة على لمّ نفسي؟ هلّا ساعدتني؟

هناك 6 تعليقات:

  1. يا الله ما أريدها تخلص.. كملي مزنتنا

    ردحذف
  2. يا قلبي أنا مُزنة بارك الله فيك وتقبل منك أعمالك.

    ردحذف
  3. يا عمري ربي يقويك ويسهل عليك عيوني

    ردحذف
  4. من أي حرفٍ هذا..سلام الله عليكِ وسلام الله على رسولنا

    ردحذف
  5. الله يا مُزن، رزقك ربي ما يطمح له قلبك، ورزقنا جميعا جنات النعيم والفوز بقرب حبيبنا ونبينا ورسولنا صلوات الله وسلامه عليه

    ردحذف
  6. يا الله ما زال قلبي يهزه الشوق والحنين لرؤية حبيبنا وقرة اعيننا محمد رسول الله. اسأل الله ان يكون لقانا معه في الجنة

    ردحذف