الاثنين، 11 مايو 2015

لأصنَع على عينه -٢

حين تتكادسُ المصائبُ على الإنسانِ يضيق فيتنفس من مولج جمل في سم الخياط، هو لا يعرفُ يا الله أن ذاك الضيقِ هو أساسُ البناء، وأن الحزن هو أكثرُ التربةِ خصبةً للزهر.

أُترِف يعقوبُ -عليه السلام- حزنًا، كان يردد :{إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون}، لم يدع يعقوبُ الذي فهّمه اللهُ الحياةَ وحقيقتَها للحزنِ أن يملكَه تمامًا، نعم كان حزينًا آسيًا حتى ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، لكنّه قال: {يا بنيّ اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}، كان يا الله يوقن حقَّ اليقين أن الحياةّ لن تهزمه وأنت معه، فوّض أمره إليك فانتحر خوفُه وانكسارُه كله، مات القلقُ فيه لأنه كان يعرفُك يا الله.

في ظلِّ بذخ الحزن، لم ينسَ يعقوبُ كيفَ يعيش، إذ قال: {لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة}، وفي ظلِّ تراكمُ الظلامِ وخيانةِ الأبناء أرسلَ أخاهم معهم للمرةِ الثانية، كان يدركُ أن الحياةَ لا تستقيمُ ولا فائدةَ منها إلا بالعطاءِ، إذ الله يغدقُ عليه من عطائه ونعمه ما يجعلُه يخجلُ من عدمِ إنفاقِها ومنحِها رغمَ حزنِه وتعبِه، جد لنا ببذل على الناسِ يا الله.

حزينٌ مطرودٌ من بلدِه، مشردٌ عن أمِّه، تعِبٌ من شقاء السفرِ والحر، مقتولٌ أو شبه مقتولٍ من تنازعِ ضميرِه وإنسانيته على اقترافِه وافتراقِه، يتحاملُ على نفسِه ليعطيَ من لم يسألْه ولم يكلمْه ولا يلتفت إليه، أيُّ تربية هذه يا الله تربي عليها نبيَّك الإنسان ليغدوَ إنسانًا حقًا؟ رغمَ ضعفِه رحمتُك عليه اقتضت أن يكون رحيمًا بالضعفاءِ حتى لا يباليَ بضعفه هو، {فسقى لهما ثم تولى إلى الظل وقال ربِّ إني لما أنزلت إلي من خير فقير}.

{وقال هذا يوم عصيب}! {لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركنٍ شديد}! ضاقَت الدنيا في عينيه لا لحزن ذاتِه ولا لحاجتِه؛ بل كان يرجو منك يا الله قوةً فوقَ قوتِه حتى يستطيع الاستمساك بقومِه إلى شاطئ الأمانِ وهم يضحكون عليه بوعيِهم، أيُّ حزنٍ نبيلٍ تلقيهِ عليه لنعلمَ نحن معنى الحزن؟ لو كان يعلمُ لوط يا رب أن هذا الحزن تحبه أنت، أنه قربٌ رفيعٌ منك!

يا لطيف، حنانُ جودِك يتجلى علينا في: "مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبِ وَلا وَصَبٍ وَلا هَمٍ ، وَلا حَزَنٍ وَلا غَمٍّ ، وَلا أَذًى ، حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا ، إِلا كَفَّرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا خَطَايَاهُ " ، أيُّ حزنٍ يلفُّنا يا اللهُ إلا فلّت نداؤكَ حزامَه؟ اصنَعني بالحزنِ على عينِك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق