السبت، 18 مايو 2019

قَبَس 4

﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقونَ﴾ [البقرة: ١٨٣]

استيقظت متأخرًا منتزقًا، تركض إلى جرع جريعات من ماء، تضع أمامك سحورك الذي جهزته من قبل، والذي سال لعابك وأنت تحضّره متحمسًا لوقت أكله، لا تكاد ترفع لقمة إلى فمك حتى أذن. تقول في نفسك: ماذا عليه لو تأخر دقيقتين حتى آكل لقمتين على الأقل؟ لكنك لا تتجرأ على فعلها؛ لا تأكل وأنت قد سمعت الأذان، مهما كان. فؤادك متلهف على طعامك الذي أمامك، أو على قطعة الحلوى التي تركتها لختام المسك في سحورك لكنك لم تلحق عليها، لكنك لا تجتاز هذا الحد وأنت تعلمه، حد أذان الفجر، وكفى؛ دون أي نقاش ولا جدال ولا مراء.

تطعم طفلك في نهار رمضان دون أن تختلس إليك لقيمات، لا أحد يراك غيره، وطفلك لا يفهم أصلًا، بل ويحاول أن يطعمك معه، لكنك تأبى وتمتنع، تبعد عنك يده التي تحمل طعامًا تشتهيه، لكنك لا تقربه. حين تتوضأ، والحر مستعر، والنهار قائظ، وأنت متعب ومنهك، وماء الوضوء بارد كفيل برد الروح، لكنك لا تشرب منه، ولا تبالغ في المضمضة ولا الاستنشاق رغم أنك تستطيع ولا أحد سيعلم على أي حال، فأنت تبدو صائمًا.

أنت الصائم الوحيد اليوم -ربما في غير رمضان-، يأكل زميلك غداءه وأنت جائع ومرهق، يعتذر ألف مرة حين يتذكر أنك صائم فيسارع إلى إدخال طعامه وإخفائه عنك. أفترض أنك لا تمانع، بل تضحك وتقول له أن يأكل أمامك، فيدك تستطيع نيل الطعام منه أو من غيره، وأنفك تهفو وراء كل رائحة تفوح غدوًا وإيابًا، لكن لك واعظ من نفسك يمنعك أن تمد يدك، أو حتى قلبك؛ لأنك صائم. 

يبدو النوم الكثير مغريًا وأنت صائم، تود أن تنام من بعد الفجر إلى المغرب، لكنك لا تفعل. تستطيع إضاعة وقتك في رمضان فيما شئت، في مقهى أو على مسلسل أو في سمر طويل، لكنك لا تفعل لأنك تعلم أن رمضان أيام معدودات يجب عليك اغتنامها في أكثر ما يقربك إلى الله. 

يبدو كل هذا مستحيلًا، لكنك تفعله، إما وأنت تحارب نفسك حربًا مضطرمة، أو حتى تفعله لاشعوريًا. تفعله دون أدنى تفكير بغيره لأنك تعلم أنه الصواب. ليس سهلًا أبدًا أن تفعل كل هذا، لكنك تفعله. أنت تفعله وأنت لا تعلم حكمة جلية من التوقف عن الطعام وقت الفجر بالذات، لا تعلم ماذا يضر أن تزيد دقيقة لتشرب جرعة من الماء، ولا تعلم لماذا فرض كل هذا، لكنك تفعله. ثم بعد رمضان، لا تدري لمَ حُرّم هذا، ولست مقتنعًا بتحريمه لأن تحريمه يتنافى مع عقلك، لكن.. هل تفعله؟ أم ترضخ دون أن تجادل؛ كما كنت تفعل وأنت صائم؟

تبدو التقوى اسمًا هلاميًا هائلًا لا يناله إلا العباد الزهاد الذين عافوا كل ما في الدنيا وانكبوا على محاريبهم، أو هكذا كنت تتصور على الأقل. لكن بعد أن صمت، وبعد أن تأدبت بالصيام، لا تبدو التقوى رقمًا صعبًا لا تستطيع نيله. تعلم يقينًا أنك تستطيع بعد هذا أن تفعل كل ما أمرك الله به وأنت تفعل ما تفعله وأنت صائم دون أن تعلم حكمة جلية، ويبدو أنك تستطيع أن تنتهي عما نهاك عنه وأنت تحرم نفسك من أبسط ما تفعله دون تفكير وأنت غير صائم، تأكل وتشرب وتجامع، لكنك تقف عند حدك الآن دون مماطلة. سؤال أخير، هل الأمر صعب، أم يُخيَل ويُزيَن لك أنه مستحيل؟ رمضان فرصة تريك من نفسك ما لم تره من قبل، فهل تغتنم؟

هناك 3 تعليقات: