الخميس، 16 مايو 2019

قَبَس 3

﴿رَبَّنا إِنّي أَسكَنتُ مِن ذُرِّيَّتي بِوادٍ غَيرِ ذي زَرعٍ عِندَ بَيتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقيمُوا الصَّلاةَ فَاجعَل أَفئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهوي إِلَيهِم وَارزُقهُم مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُم يَشكُرونَ﴾ [إبراهيم: ٣٧]

لا عاقل يترك زوجته التي لم يمض زمن طويل على ولادتها ابنه البكر الذي طال انتظاره؛ فيتركهما وحدهما في البيت ويغادر دون أي اتصال ولا اطمئنان عليهما ودون أن يؤمّن لهما حاجاتهما من مأكل ومشرب قبل مغادرته، لا عاقل يتركهما في البيت لوحدهما في هذا الحال. لكن إبراهيم عليه السلام قاوم كل نوازع قلبه ووساوسه، قاوم عدم الاطمئنان، والصوت الذي يقول له أن طفله الذي طال انتظاره سيموت حتمًا، ربما قاوم أنين زوجته وحبيبته وهو يتركها، وربما قاوم حتى دموعه وانكساره عليهما؛ لأنه يمتثل لأمر الله وحده. لم يتركهما في بيت، ولا في غرفة ضيقة، ولا تحت مظلة، بل في صحراء قاحلة تحت لسعات الشمس بلا أي مصدر رزق ولا إنس ولا جن معهما. تركهما وسط لا مكان، أي قلب يطيق هذا كله؟ ثم أي قلب امتلكت زوجته كذلك وهي ترضى لأن الله أمره؟ وهي مرهقة، جوعانة، عطشانة، تكاد تموت حرًا، وتكاد تموت أسى على رضيعها الجائع، يتمزق قلبها ألف مرة، لكن الله لن يضيعهما! 

تركهما ومضى، تبتل لله أنه تركهما بلا مأوى ولا قوت لا لشيء إلا ليقيموا الصلاة في تلك الأرض، لهدف أعظم من الاستجمام بعيدًا عنهما. مع هذا كله، دعا لهما بالرزق الطيب من القوت ليبقيا حيَين، لكنه دعا لهما قبل القوت بالأفئدة؛ ليسخر الله لهما الناس يأتونهما بكل لهفة وحنين؛ لأنه يعلم أن لا قيمة للطعام والشراب ما لم يكن الفؤاد مطمئنًا والنفس مستقرة. لا قيمة لبناء الأجسام إذا كانت الأفئدة هواء. فهم إبراهيم أن الفؤاد أولى بالاهتمام من الجسد، فإن استقر فالجسد أهل للحياة، ولاستقبال الطعام الذي يبقيه حيًا. 

يسخر الله لك الخير في مأوى، ومأكل، ومشرب، وملبس، لكنه يسخر لك قبله الخير كل الخير في الناس الذين حولك، وقلوبهم، وحبهم، وحرصهم، ووجودهم حولك. فهل رأيت الخير؟ وهل شكرت الله -بعملك- عليه؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق