الأحد، 11 مايو 2014

ميتةٌ برُوحٍ، وأحياءٌ بلَا أروَاح!

ربما كان علي أن أكتب قبل عامين حين وقع لي ما وقع، لكن فقد أمي الثانية أنساني كل شيء إلا الجنة، سأكتب عن أيام قضيتها بين أروقة العناية المركزة في المستشفى، لا أدري كيف أصف تلك الأيام التي كانت أقرب إلى الموت من الحياة، ربما لم تكن قريبة من الموت للمرضى، بل كنت أحس أن الموت أقرب إلي من الذين تنتزع أرواحهم أمام ناظريّ! 

لا أدري لمَ -تحديدًا- كانت عيناي تدمعان حين كنت أشاهد ذلك الرجل ينهار حالما كانوا يسعفون أخاه ويحاولون إنعاش قلبه، كانت أخواته وأمه منهارات لفجأة ما حصل وشدته! ربما كنت أموت في تلك اللحظات قبل موته! كنت أحتضر ألف مرة في داخلي وأنا يخيل إلي أنني المأخوذة روحي، أظنني لم أكن جاهزة حقًا في تلك اللحظة، لا أعرف ماذا سيكون حالي إن احتضنني ملك الموت، ربما لمت حينها تائهة لا معنى عظيم لي في الحياة، وقد تكون وفاتي نقطة تحولي من الدنيا إلى بئس المصير! نعود لذاك الرجل وأهله، كانت الممرضة قد منعتني لتوها الدخول عند أمي النائمة في غيبوبة لأمسك بيدها وأشم ريحها، وقفت خارجًا ما بين متأملة متيقنة بالله وبين من يلفه الأسى، كنت أعتب في تلك اللحظات على الأم التي كانت تبكي وتنهار بلا تفكير بمن حولها من الرجال هي وبناتها، لا أدري هل كان عتبي صحيحًا في تلك الثواني أم أنني لم أمر بما مرت به هي حتى أتحدث! كنت أفكر لثوان أن أكون إنسانًا طيبًا لأتقدم وأبعث فيهن روح التعلق بالله والتجلد والصبر سواءً أعاش رجلهن أم مات، ولكنني لم أكن حقًا ذاك الإنسان الطيب، أو ربما أستطيع التعلل بأن الأجواء هي التي لم تكن طيبة. تجاهلت عدم توفير المستشفى لمقاعد خارج الغرف وجلست على الأرضية من الإنهاك الذي يذوقه أهالي المشافي، وبت أراقب الموقف لفترة خلتها أنها سنين بينما كانت دقائق! تأخر الوقت إلى ما يقارب منتصف الليل ولم أر بعدها طيف أم وبنات يبكون، إذ لم تدعني قط أمي أن أبات في المستشفى رغم إصراري، كانت تقول أنها هي أحق بأختها وأن نوم المستشفى قاسٍ ولا يعد نومًا حقيقيًا بعد طول إرهاق أيام المستشفى. في اليوم التالي أخبرتني خالاتي فرحات بأن الله أحيا ذاك الرجل ونقل إلى غرفة خاصة، ولم أكد أصدق حين رأيت أهله مستبشرين فرحى؛ ولم أكد أصدق كيف كان الموت يحوم حوله ويداعبه حتى ظننت أنه هالك لا محالة والأطباء يخرجون واحدًا تلو الآخر من عنده وهم يائسون، لا عجب في عظمة الله وكيف يحيي الروح البعيدة عنه حين تتوب حياة كأنها خرجت من بين الأجداث وأصبحت تعيش في الجنة!
لم يكن ذاك موقفي الوحيد، فكلما تعرفنا على المرضى المجاورين لسرير خالتي -أمي الثانية رحمها الله- وأهاليهم، لم نلبث إلا أن نفتقدهم، ونبلغ حين نسأل أن مريضهم عادت روحه إلى ربها، لم ندرِ كيف كانت مشاعرنا في تلك اللحظة ونحن نعيش بين أناس على حافة الموت، جلست ليلةً بمفردي مع أمي ممسكة يدها وهي لا تشعر بي، لا أدري ما الذي أبكاني بشدة وأسرى القشعريرة في جسدي فجأة حين تذكرت أن المكان الذي أقبع فيه هو مسرى لمئات الأرواح التي ترحل إلى الجنة أو النار، كنت لا أزال قلبي معلقًا بالله وأقول لعل الله يحييها، بكيت حتى لم أستطع الوقوف بجانبها لشم رائحتها والمسح على يدها فجلست على أرضية العناية متكئة على الجدار، كان من رحمة الله بي أنني حين كنت -أنا بالذات- أمسك بيدها تشد عليها أكثر، وقبل أن يسوء حالها كانت تعرفني باسمي وتناديني ابنتي مزونتي الحبيبة بين معظم الأهل الذين لا تعرفهم! لا يزال صوتها يتغنى في أذني حين كانت في أول الغيبوبة ولا تفقه ولا تجيب على أي شيء، حين كنا نسألها عن حالها تجيب: الحمدلله، هكذا كان دأبها في كل ثانية وأخرى "الحمدلله"، رعت حق الله وأحبته، فأحبها وأظهر حبه بأن يجري لسانها بذكره وهي في موت أصغر!
لا زلت أذكر اليوم الذي كانت فيه الساعة تنجاوز التاسعة ليلًا، كنت عندها وإذ بهم يخرجون كل من في العناية فجأة لأن حالة طوارئ جاءت، وكنت قد اعتدت رؤية حالات الطوارئ وإنعاش القلوب وإعلان الوفيات، كانوا عادةً يسعفون المريض على خفية ما بين طيات الستائر والطاقم الطبي، ولكن هذه المرة لم يستره أي شيء فكان على مرآي، كانت أمي وابنة خالتي وخالتي يزجرنني ويأمرنني بالجلوس وعدم مشاهدة ذاك المشهد، ولكنني أبيت إلا أن ألتصق بالزجاجة لأرى كيف تصعد روح أحدهم إلى السماء أو كيف يردها الله، كان الطاقم على حال فوضى وهم يرون مريضهم تتناقص نبضاته ما بين أيديهم وهم يزيدون شدة صعقة التيار الكهربائي لإنعاشه، وبدلًا من أن تزيد النبضات على شدة ذاك التيار كانت تتناقص، لا زلت أذكر وجه الطبيب الحزين الذي خرج بحالة مزرية بعد أن قضى ما يقارب الساعة في الإنعاش ولم يفد كل ما عنده، ربما عرف في تلك اللحظة أن الموت إذا جاء فلا ينفع أمهر الأطباء ولا يشفع، لم ييأس رفقته من الطاقم بل كانوا لا يزالون يحاولون بكل ما أوتوا من قوات وعلم أن ينقذوا حياته، ولا زلت أذكر صوت الطبيبة التي تصرخ للممرضة بأن تزيد جرعة دواء تطلبه منها، فتحقنه ولا يفيد فتزيد وتزيد، وبين كل تفاصيل الزحام هذه كنت أعجب كيف لم يكن لذاك الرجل أهل يرافقونه ولا صاحب يبكي عليه ولا أم توسوس ولا أخت ترجو الطبيب أن يبذل كل ما بوسعه، تمنيت لو أحياه الله أن أسأله كثيرًا كيف عاش، ولم أكن لأكتفي بإجابة صماء، كنت لأود منه أن يحكي لي كل تفصيل ممل، أنا بحاجة إلى أحاديث الموت بشدة؛ لأن أحاديث الموت في الإسلام تعني بشرى سعيدة لا تستحق البكاء، بل تستحق كل السعادة -إن كان صالحًا وتقبله الله- لأنها انتقال من حزن الدنيا إلى نعيم الجنة! ومن الأحمق الذي قد يكره تذكرة سفر تنقله من جدب الصحاري إلى متعة غابات الاستواء؟! كنت أنظر لذاك الذي لم يكن بيديه إلا استقبال زيارة الموت المفاجئة، لم يكن ليسمح له عجزه أن يرده أبدًا، بعد ساعة أو يزيد من فوضى الإسعاف، مات الرجل، وعشت أنا حياةً أخرى!


*شكرًا لمن يعيدون فينا التفاصيل والذكريات لنكتبها، ذكريات مستعادة على إثر خاطرة ذهلاء: http://hope-plant.blogspot.com/2014/05/blog-post.html?m=1

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق