الأربعاء، 6 يناير 2016

صفحات من حياة هبة وخالتها.

في السادسة صباحًا من أحذ أيام ذي الحجة وصلت هبة، أذكر أذان أبي في أذنها اليمنى وإقامته في اليسرى، أذكر نظره إلى أمي بعدما انتهى ليقول لها: عزيزتي كبرتِ وأصبحتِ جدة! دموع أمي وهي تنظر لحفيدتها الأولى وتقول: هبة الله أنتِ. 

بكاء هبة ينزع مني انغماساتي، انغماسي في كتاب -أكررها ثلاثًا-، انغماسي في الحديث مع أختي، انغماسي في تأملاتي، انغماسي في أعمالي، انغماسي في لذائذي، وانغماسي في شتاتي. بكاؤها يكسر كل شيء أمامي ليفتّح عينيّ على الواقع ويجبرني أن أفيق، أن أفتح عينيّ الناعستين صباحًا، وأن أدرك أن بكاءها لم يكن في حلم بل في واقع -هنا الجزء الأصعب في الحياة-، وأن أحملها وأهدئ من روعها وأضرب بكل آلامي التي لا تسمح لي بالقيام من فراشي بعرض الحائط لأنزل إلى الطابق السفلي باحثة عن حليبها لأطعمها ثم أغير لها وأتجاهل أنني لم أغتسل وأني بثياب نومي وشعري المتناثر وأن بطني لم يذق شيئًا منذ غداء الأمس، أطبطب عليها حتى تنام أو أكتفي بوضعها على صدري لتنام هانئة، بعدها أنتبه أنني لم أفعل شيئًا مما ذكرت، وأن لدي أعمالًا كثيرة تنتظرني. تقوم تبكي مجددًا، أقول لهديل دائمًا أن هبة لا تحبها لأنني كلما حدثتها بكت. 

أتفكر كثيرًا كيف تغيرت حياتي بعد هبة، أستيقظ على بكائها، لا أنام إلا بعدما أسمع السمفونية اليومية التي تخص الساعة العاشرة وعشرين دقيقة، يقيتني عدم تقبلها للرضاعة التي تسد رمقها حين تغيب أمها، تبكي حتى تزرقّ، أهدهد وأغني وأتلو فتسكتني بصراخها حينًا وتهدأ وتطمئن أحيانًا أخرى، ترضع بشراهة أحيانًا وتدفع كل شيء وترفس وتبكي كأنها تساق إلى الموت وهي تنظر. لا ينفطر قلبي لبكائها وجوعها ورفضها كما ينفطر لذكرى أشياء أخرى، ذكرى الصبي الذي كان يبكي ربما حتى ازرق أو اسود أو خفت صوته؛ الذي كانت أمه توشك أن تنفجر وهي تسمع بكاء طفلها في واد غير ذي زرع حيث تفجر من تحتها نبع لن يخفت إلى القيامة؛ الطفل الذي كانت حكايته تغييرًا للتاريخ بل بناءً لأمة، أسمع بكاءه في بكائها وأتمتم دعاءً أن تكون أُمَّة. أتذكر كذلك بكاء المشتتين والجوعى، كلما أعطيتها رضاعة ممتلئة بحليب أمها لتنهيها وأحضر لها غيرها مملوءة أذكر الطفلة التي ضاق جلدها ففصل أضلاع قفصها الصدري لمن لم يعرفه، ولم ترضع إلا ماء وملحًا. وما ارتدت هبة ثيابها الشتوية إلا تذكرت الذين لا يملكون دفءً سوى أحضان أمهاتهم الذي غالبًا ما يكون متجمدًا لا دافئًا. 

فقدان أمي لصوابها حين تبكي هبة وكسر أمي لقنينة العسل الغالي الذي يحبه أبي حبًا يساوي حبه لنا لحظة ارتباكها من بكاء هبة يجعلني أرجع إلى نفسي أحيانًا كثيرة، أقول لأمي ما قيمة ارتباكها وتشتتها وغضبها حين تبكي هبة إن كانت أمها بجانبها تحن عليها وتفي بأغراضها؟ تغضب أمي وتكتفي بقول: "حين تنجبين طفلك الأول سأذكرك بكلامك."، أضحك أحيانًا وأصعق أحيانًا أخرى حين تحدثنا أمي عن تفاصيلنا حين كنا بحجم هبة، بكاؤنا وجوعنا وحركاتنا الأولى وتصرفاتنا الأولى واكتشافاتنا الأولى، لا أستطيع تصورني بحجم كحجم هبة التي أحملها بيد واحدة! 

"وخلق الإنسان ضعيفًا"؛ أتأمل كثيرًا فيها حين لا تملك لنفسها نفعًا، لا تملك سوى البكاء طلبًا للنجدة، لا تملك حتى الهرب حين تقرر خالتها أن تصبح قاسية، لا تملك إعداد طعام لها أو شراءه، لا تملك سوى "النظر إلى السقف" وطلب الرحمة! أرجع كثيرًا أقول "رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا" حين أجد حياتي كان بإمكانها أن تنتهي منذ أول يوم بعد ولادتي إن لم ترحمني أمي وتقم بشأني، كيف كان بإمكاني أن أموت جوعًا وضعفًا إن لم ترضعني، أن أغرق في وسخي إن لم ترعاني، أن أختنق إن لم تحضنني!

تسميع حفظي من القرآن لهبة، قراءة الورد اليومي لها، ضمها في حضني حين أقرأ ونظرها إلى الكتاب بشغف، حتى الرعايات اليومية التي تكون لكل طفل بشكل تقليدي بحت كون الأم الآلة التي تنجب الأطفال ثم ترضع كالبقرة الحلوب ثم تربي ويعيش العالم بسلام أو خراب ثم تموت الأم وينتهي كل شيء لتبدأ سلسلة جديدة من التكاثر والإنجاب لا لشيء سوى التناسل، كل التفاصيل الصغيرة والأسرار، كلها لتكون هبة أمة، كما نُذرت محررة، لتنبت نباتًا حسنًا، ولتأخذ الكتاب بقوة. 

هناك تعليق واحد:

  1. أصبحت مدونة مزنة في قائمة الأعمال التي يجب إنجازها،
    شكرا لأنكِ تكتبين


    ندى..

    ردحذف