الخميس، 20 فبراير 2020

مذكرات خرّيجة 8.


-قتلتِه؟
-نعم...

نعم، قتلته، قال الدكتور: هل سمعتم الصوت (تِك)؟ ردوا ردًا جماعيًا: نعم سمعناه، كان عاليًا. رد: جيد جدًا. صرخت البنات: لم يمت، ما زال يتحرك ويتعذب! رد: لا بل مات، سمعت الصوت عاليًا، دعيني أتأكد، يأخذه من بين يديّ السفّاحتين، يؤكد أنه مات، ويبدي إعجابه بقتلتي السريعة، عمل رائع؛ يحييني. أبتعد، لأدرك نظرات رفيقتي التي انصدمَت كيف أفعلها أنا، وأدرك ما فعلته أنا لتوّي، وأدرك أن الأرض لا تحمل ثقل جسدي حاليًا ولا يبرّد الجو حرارة جسدي وهو يغلي. أدرك أنني لست متأكدة إن كان ما فعلتُه شجاعةً وبنات مجموعتي يقدمنني لفعله لأنهن لا يقوين، ولست متأكدة حتى أنه مقبول عند الله. تضاربت مفاهيمي، أضطرب فوق انهياري حين أرى مروة التي كانت تمسك الفأر وتحقنه بكل شجاعة وتمسك به إن هرب بلا خوف، أراها لا تقوى على هذا كله. كانت نفسي تهوي بين جنبيّ. كنت أعزيني أنني لم أفعله عن هوى، ولم أرد تعذيبه وأنا أكسر عموده الفقري وأقطع حبله الشوكي ليموت فورًا، ولم أقصد قتله دون أي هدف. كان هذا الكائن المسكين خادمًا للعلم، كان يتحمل كل التجارب ليعيش الإنسان حياة أفضل ويتغذى ويتداوى كما يستحق. أنا لم أكن سفّاحة عن هوى كما يقتل بعض الناس بعضًا، أنا قتلتُ فأرًا لأحييَ الإنسان.

بعيدًا عن كل المتاعب وحياتي المتبعثرة، تظل بعض المواقف واللحظات حبيسة الذاكرة فلا أملك تجاوزها مهما مرّ بعدها. بعض المواقف تقلب الحياة رأسًا على عقب حتى تبدو كل فوضى قبلها نظام وترتيب، ثم آتي لألملم هذا كله وأمضي دونما أي أثر لخراب. أحاول أن أكون خفيفة مهما ثقلت، وأن أشد على نفسي تارات وأهوّن عليها تارة. أحاول السيطرة على الفوضى بأقل الأضرار الممكنة دون أن أثير أي فوضى فيمن حولي. أحاول ألا أكف عن العطاء دون حدود مهما احتجت، فلا تخيبني عطاءات الله. 

بارحة الأمس سلّمت المسودة الأولى لملخص مشروع تخرجي. كيف كبرت بسرعة؟ لا أعرف وحدي. ما أعرفه هو أنني بدأت أنضج، وإن كنت أبدو غضةً في كثير من الأحيان. أكبر وأنضج وأستعد للإثمار، وأمد جذوري لأستمد الماء من بعيد إن جففت، أقلّب في أوراق علمية كثيرة لأفهم وأتعلم، وأقرأها بسلاسة وأفهم كل ما يقال فيها دون عناء، أفهم المصطلحات التي لم أظن يومًا أنني سأعيها، وأعلم ما أفعل وأنا أجد ضالتي ولو كنت بذاتي ضالة. هل بعد هذا المنهل انقطاع؟ لا أدري. أعني، لا أرجو. 

أحمل زادي في هذا الفصل الطويل من حب الأصدقاء، ومن إحاطة أهل القرآن وتمسكهم بي ولو فرّطت، ما كان نعيم أعظم من ألا يرضى أن يفلتني أحد من أهل القرآن ولو لم أتمسك به، ما كان حب أعظم من هذا، ولا أبعثَ للسرور في نفسي من أصحاب يُلصِقون القرآن بي فلا يخلو ليل ولا نهار منه. حلقتي الأولى التي وهبني الله إياها من العدم بعد انعدام الأسباب والتي كانت هي وبناتي فيها بردًا وسلامًا على قلبي، إقراء بناتي، جلسات التسميع اليومية، الصحب الذين لا يصبرون عن حلقات القراءة معًا مهما شغلتنا الحياة. أحمل زادي من دورة المنتصف الماضية التي كانت قطعة من جنة السماء لولا التعب فيها، ومن دعوات أمي، ومشرفة مشروع تخرجي التي لا تعلمني علمًا مجردًا، بل تحنّ علي ثم تعلمني وتتجاوز كل هفواتي حتى أتقن، وتفتخر بي أمام الطلاب لإتقاني هذا الذي علمتني إياه أو ذاك. أدعو الله أن أكون غرسًا راسخًا في تخصصي، وأن أكون غرسًا أرسخ وأكثر إثمارًا في المشروع القرآني. 

أحمل زادي من الذكريات، أتذكر أيامي الصعبة الأخيرة نهاية الفصل الماضي، مرابطات المذاكرة في المكتبة حتى وقت متأخر من الليل، اجتياز هزائمنا النفسية وسط المذاكرة والحروب باستراحة نتلو فيها آيات في الهواء الطلق، البرد الذي لا يكسحنا ونحن معًا، ووجبات المقهى والشوكولاتة الساخنة التي أعدها وطلب غداء السبت، كل هذا وإن مضى وولى ذكراه تمدني بالقوة، والشعور بالسند مهما تعثرت.

أدعو الله ألا أنطفئ ولو لم يكن كل معلميّ لفصلي الأخير ملهمين. أرجو ألا تنطفئ الشعلة التي أوقدها كل من قبلهم ولو أطفؤوها هم، أرجو أن أقتبس العلم كله منهم، ولو لم أستطع اقتباس النور. آمل أن أحمل بداخلي ما يكفيني من النور ولو لم يوقدوه هم. 

ستبدأ الاختبارات الفترية الأسبوع القادم بإذن الله وأنا لازلت لا أذاكر كما ينبغي وسط الضغوط من كل الجهات، سارة المباركة، أمي وضيوف استقبال المولودة، المشروع القرآني وهمومه، حياتي التي ألم شتاتها من صوب فينفرط عقد الجهة الأخرى، يتكفل بها الله. 

حين تجتاحني مشاعر الوداع، أهزمها بأن أقول أنني لن أبتعد كثيرًا، أتجاهل قلقي من ترقب العائلة تخرجي لأكون أقرب، وأعيش الفصل الأخير بكل تفاصيله. أقدّس كل لحظة وأمتن لله عليها. أقضي في الجامعة أغلب يومي، لا أستخسر الأوقات التي أبذلها لخدمة الناس وللعطاء لمن أحب، أغيب عن القسم لأكون موجودة في مقرّ حلقاتنا، بيتي الثاني المغمور بالدفء الذي لا تنقطع فيه أصوات التلاوات والصلوات واللقاءات المبهجة الباعثة للطاقة. لا أنفكّ عن حفظ كل من أحب في دعائي وقلبي، وأولهم أهل القرآن. أدعو الله أن يحسن مقامي وأثري، وأن يجعلني مباركة أينما كنت، غيمة خفيفة تظل العالمين، وتخص بمطرها من ابتغاها ظلًا. رب اجعلني غارسة الحب والخير، أمضي أنا ولا يمضي هو. شعار الخطوة الأولى والأخيرة: ﴿وَاصبِر فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضيعُ أَجرَ المُحسِنينَ﴾. ❤️

هناك 3 تعليقات:

  1. يضنيك التعب والجهد فتتحملين، تنثرين ما علمتِ، وكنتِ مَعينًا لمن عرفتِ، أدام الله منبعك الصافي الزلال وكثر الله من وارديه ومريديه.. مثلكم رحمة على البلاد والعباد وحسبنا قول الحبيب إن لله عبادا اذا نظر إليهم ارتفع سخطه عن أهل الأرض ولا أجد لهذه كرامة مثل كرامة أهل القرآن.. ولا نزكيكم على الله.. بل بحسن الظن فيكم.. هنيئاً لنا ويا سعدنا بكم.. وان كنا بدأنا بالحزن لفقدكم وإن تناءت الأجساد فدولة الروح بالحب واصلةٌ..

    ردحذف
  2. صح.. تعازينا لأهل الفأر.. ولا حداد في العلم.

    ردحذف
  3. اللهم احفظ غيمتنا الغالية ووفقها لما فيه خير لها وللأمة ❤️ وتقبلها يا رب❤️
    أحاول بكل قوتي تناسي قرب تخرجك... لأنني كلما تذكرته تمنيت أن أقيدك في برج الجامعة حتى لا تغادري!
    شكراً لكل ما تفعلينه لأجلنا، كدس قلوب حالش ... (مااه أحاول ألحّكش فتحمّليني)

    ردحذف