الخميس، 6 أغسطس 2020

مكلوم.

من أكثر المشاهد رسوخًا في ذاكرتي، وأكثر الأصوات رسوخًا في سمعي، أغنية "موطني" حين نغنيها حشودًا من كل الدول العربية بصوت واحد، أطفال وراشدون، من الدول المنعّمة وتلك المنكوبة التي حاربت لأيام على الحدود لتصل إلى هذا الحفل الذي وصلت إليه مرتاحة مرفهة، نغني ونقول "هل أراك سالمًا منعمًا وغانمًا مكرمًا؟". كنا نقولها والدول المنكوبة أقلّ، فعلتها معهم لخمس سنين متتالية، كانت الدول المنكوبة في السنين الخمس المتتالية تزيد، والدول الحاضرة أيضًا تزيد، لأن الشعوب العربية شعوب تلفظ الذل وترفضه، وتحيا هي وتشق حياتها الكريمة ولو انعدمت أسباب الكرامة. 

أنا لست محللًا سياسيًا، ولا أعرف في الاقتصاد ولست جيدة في تخمين ما قد يحدث لشعب ما بعد عشر سنين، لكن كان لديّ حلم أن أدرس الطب في سوريا لأنها تدرسه بالعربية، وانهار حلمي حين انهارت سوريا. كنت أحلم أن أزور بلاد الشام وأشم فيها رائحة فلسطين وأكحل عيني بجمال العمارة والطبيعة وأذوق من طيب ثمارها، انهارت كل احتمالات أحلامي، حتى احتمال أن أطل على فلسطين ولو من بعيد. أنا لي ذكريات في مصر التي لم نعد نشعر بالأمان لزيارتها كل بضع سنين، والعراق التي ظننتها تتعافى وتنهض ما تعافت ولا نهضت، واليمن السعيد الذي لم يعد سعيدًا وأنا أحلم بزيارته، وأحلامي العربية تتهاوى واحدًا تلو الآخر.


"أنا العربى لا أخجل
ولدت بتونس الخضراء من أصل عماني
وعمرى زاد عن ألف وأمي لم تزل تحبل
أنا العربى فى بغداد لي نخل
وفى السودان شرياني
أنا مصري موريتانيا وجيبوتي وعمّاني
مسيحي وسني وشيعي و كردي ودرزي وعلوي
أنا لا أحفظ الأسماء والحكام إذ ترحل"

يبدو العالم رماديًا موحشًا جدًا حين أراه بعين واحدة، أو حتى بأقوى منظار معروف (ماديّ)، حين أراه ببُعد واحد وأنا أحتاج إلى أبعاد لأرى الصورة كاملة. كل هذا الدمار، الوباء المكتسح، الفقر والجوع، ألا مِن قوة عليا تنزع هذا الأسى؟ بلى، القوة العليا ترعى كل شيء، الله يسمع ويرى، والإنسان يظلم ويطغى، ﴿قُل مَن يُنَجّيكُم مِن ظُلُماتِ البَرِّ وَالبَحرِ تَدعونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفيَةً لَئِن أَنجانا مِن هذِهِ لَنَكونَنَّ مِنَ الشّاكِرينَ ۝ قُلِ اللَّهُ يُنَجّيكُم مِنها وَمِن كُلِّ كَربٍ ثُمَّ أَنتُم تُشرِكونَ ۝ قُل هُوَ القادِرُ عَلى أَن يَبعَثَ عَلَيكُم عَذابًا مِن فَوقِكُم أَو مِن تَحتِ أَرجُلِكُم أَو يَلبِسَكُم شِيَعًا وَيُذيقَ بَعضَكُم بَأسَ بَعضٍ انظُر كَيفَ نُصَرِّفُ الآياتِ لَعَلَّهُم يَفقَهونَ﴾. قادر وحليم، ولو أكل الناس بعضهم بعضًا.

يقول لنا دائمًا أن لا مكان للظلم بيننا، وأن السلام هو الحياة، ثم حين يأكل الإنسان حق الإنسان، يظل الله ينبئنا مرارًا عمن طغوا وعمن طُغي عليهم واسودّت الدنيا في أعينهم وهم يشتكون ﴿قالوا أوذينا مِن قَبلِ أَن تَأتِيَنا وَمِن بَعدِ ما جِئتَنا قالَ عَسى رَبُّكُم أَن يُهلِكَ عَدُوَّكُم وَيَستَخلِفَكُم فِي الأَرضِ فَيَنظُرَ كَيفَ تَعمَلونَ﴾. سيستخلفكم وسينظر كيف تعملون، ﴿فَقُطِعَ دابِرُ القَومِ الَّذينَ ظَلَموا وَالحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمينَ﴾. جاءت النهاية السعيدة بعد بلاء طويل ممتد مميت، هل أرى الضوء -على خراب العالم- في نهاية النفق بعمق نظرتي الغيبية؟ هل تلمّست نفسي وأحوالنا وأنا أردد قصص الأقوام السابقة المكررة مرارًا؟ أم أرى الأشلاء والدماء والدخان والدمار والجوع فقط وأنهار كلما انهار وطن؟

قلبي العربي مكلوم وموجوع، ضياع الأوطان ضياعي، والجهات تضيق عليّ ولو اتسع لي وطني. يا رب أوطانًا حرة صالحة، يا رب عربًا مسلمين أقوياء أعزاء، يا رب تعبنا، أغثنا، استعملنا ولا تستبدلنا. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق