الثلاثاء، 2 يونيو 2015

رحلةٌ بينَ عُرُوبَة وَثَقَافَة -٢

متجاهلةً دغدغةَ تأنيبِ الضميرِ الذي يزاحمُ كلَّ تفاصيلي، ومتنهدة بعد تلاطمِ الأعمالِ حتى كادت تدفعُني خارجي لتبقى هي بقوتها، أكتبُ.

الليلةُ التي قضيتها أكتبُ الأشياءَ التي آخذُها للسفرِ وأشاركها إياها وهي تذكرني بالنواقص، الاستيقاظ مبكرًا وإعداد الأغراض، الاستعداد وتعجيلُ أمي لموعدِ المطارِ، شراءُ علمٍ كبيرٍ، مقاومةُ الحرِّ وجر الحقائب في المطار، لقاؤهم من بعيد بابتسامة عميقة، كلُّ الأشياء تلك تكللت بعميقِ الدعاء من الناس أجمعين، من آباء رفيقات السفر الذين لم أقابلهم في حياتي، دعاءُ أبي وأخواتي، تبتلاتُ صديقاتي، وترديد "عُمان تفخر بك، سترفعين رأسَ عمان." من كل أحد، أردُّ بابتسامةٍ عميقةٍ محشوة بأملٍ بالله عظيم.

مرورًا بتفاصيلِ السفرِ المرهقة إلى وصولِنا إلى الإمارات، وتعبُ طفلاتنا وتباكيهن من التعبِ الذي أجبرني أن أكف تجاهلَ شعوري بالتعب، وصولًا إلى سعةِ صدر وابتسامةِ مستقبلنا في المطار، هذا العالمُ يحتاجُ إلى تعبِنا وبذلِنا.

وصلنا إلى الفندقِ لا نبغي سوى إلقاءِ أجسادنا على الأسرّة، فتفاجأت أنهم ينادونني لأن المسابقة ستكون حالًا، صُعِقت بتعب السفر وجوعه القارص وأنا التي كنت أقولُ لها قبل يوم أنني سعيدةٌ لأن المسابقة صباحًا بعد نوم وفطور، تنهدت، أخبرتها، قالت لي لا تخافي ولا تترددي! قلتُ لها لا أفعل! تنهدتُ بابتسامةٍ عميقةٍ وأمل معقود بالله عظيم بعدَ كلامِهم وتشجيعِهم، ابتسمتُ حتى مع خروجِهم يبكون، همسها "مزنة أنتِ مختلفة، لن تكوني مثلهم."، قلتُ في داخلي:"الله أوصلني بلطفٍ عجيبٍ إلى الأول على دولتي بلا احتساب مني، أفلا يوصلني إلى هنا؟"

"كيف كانت المسابقة؟"، اكتفيت بـ"الحمدلله، كانت جيدة وأديت كل ما علي الحمدلله!"، غضضت البصرَ عن خوضي تجربةً عجيبةً في حياتي، فلجنةُ التحكيم التي كانت من دكتورٍ وأستاذ كبيرين لم تألُ جهدًا في أن ترميَ سؤالًا يلي آخرَ بلا استراحة لأخذ نفس حتى، ولم تلِن حتى لابتسامةٍ أو نصف كلمة حسنة تفرعُ في السماء، لا أدري لعلهم أرادوا بذلك أمرًا ليميز الخبيث من الطيب، لا أقصدُ الخبيثَ بل الأفضلَ من الحسن. كنت أردد قبلها يا رب أعطِني انطلاقَ وقوة موسى في الحديث من بعد ما خاف وسألك هارون الفصيح عونًا، يا رب كن لي وأفصِح لساني وأطلقه فيك.

ليلةٌ طويلةٌ مرت بسرعة، أو ليلة قصيرةٌ تباطأت، لا أدري أيهما كانت، بعد دعاء أمي كنت أجلس مع الفتيات في سهرةٍ قبل النوم نتسامر حتى غلبنا النوم، لنشرق على صباحٍ جديد، إنه الصباح الكبير! لم أفتح عينيّ حتى قلت: "يا رب الأوائل". 

سارعت إلى إيقاظ أمي، وصلاة الضحى ثم الفطور، تجهزت سريعًا مرتديةً علمي الكبير لأذهب لمساعدةِ تجهيز صغيراتنا اللاتي لبسن الثوبَ العماني التقليدي، سرعة تلحقها سرعة حتى أقلتنا حافلةٌ جلست فيها بالقرب من فتاةٍ من الوفدِ الأردني، سرعان ما تعارفنا وتبينّا كم أننا شعوبًا وقبائل نتشابه لكننا نختلف، سعادة غمرتني بلقائي ذاك الذي اقتربت فيه شبرًا من وفدٍ عربي، نظراتي المليئة بالأمل للحديث مع الوفود الأخرى من شتى البقاع العربية لم تفلح سوى في استجلابِ مزيد من الانتماء إليّ، عرب مسلمون ندور في المدارِ نفسِه.

حفلُ التكريم بدأ لتوه، عظمة تكتسي فؤادي إذ يجتمع عرب تحت سقف واحد يمثلُ كلُّ واحد منهم بلدَه، الوفد السعودي خلفي والقطري بجانبي واللبناني الودود أمامي وأمامه وفد فلسطين، ذلك الوفد الذي يرتدي بذخ الثوب الفلاحي، إيه لو يعلمون، شيءٌ بداخلي يدافعُني لأتعرفَ عليهم ولكن مراسم الحفل تلزمني ألا أبرحَ مكاني عاكفة حتى ينتهي الحفل، لا أريدُ سوى أن يعلموا أنهم ليسوا وحدهم يقاسون، أنني ربما أقاسي أكثرَ منهم في البعدِ أحاول أن أبني نفسي ومن حولي وأعدنا لنصلَ إليهم أو لنفعلَ شيئًا مما أحشرجُ بالبكاء حين أذكرُ عجزي وبعدي -رغم أنني أجتهد وأوقن أنني سأصل بطريقة ما-، لأقولَ لهم أنتم لا تعلمون أنني أحملُ علمَ فلسطين بحجمٍ يفوقني بجانب سريري أتأمله مليًا وأعملُ له، ولا تعلمون كم كلن بودي أن أرتدي علمَكم فوق علمي. تجاهلت تضاربَ الشعور فيّ لأغنيَ معهم:
موطنيموطني
الجلالُ والجمالُوالسناءُ والبهاءُ
في رُباكْفي رُباكْ
والحياةُ والنجاةُوالهناءُ والرجاءُ
في هواكفي هواك
هل أراكْهل أراكْ
سالماً منعَّماوغانماً مكرَّما؟
هل أراكْفي علاكْ
تبلغ السِّماكْ؟تبلغ السِّماكْ؟
موطنيموطني
موطنيموطني
الشبابُ لن يكلَّهمُّه أن تستقلَّ أو يبيدْ
نستقي من الـردىولن نكون للعدى
كالعبيدكالعبيد
لا نريدْلا نريدْ
ذلَّنا المؤبَّداوعيشَنا المنكَّدا
لا نريدْبل نُعيدْ
مجدَنا التليدْمجدَنا التليدْ
موطنيموطني
موطنيموطني
الحسامُ واليَراعُلا الكلامُ والنزاعُ
رمزُنارمزُنا
مجدُنا وعهدُناوواجبٌ من الوَفا
يهزّنايهزّنا
عزُّناعزُّنا
غايةٌ تُشرِّفُورايةٌ تُرفرفُ
يا هَناكْفي عُلاكْ
قاهراً عِداكْقاهراً عِداكْ
موطنيموطني 



ها هي المقدمة تنادي اسمَ عمان لتمزجها بصدقِ مشاعر تكسبنا الفخرَ بالعلمِ الذي نحمله، ما إن انتهت حتى تسارعَ الحفلُ ليقارب الانتهاء ولا ينتهي حتى يُعلَن الأوائل على الوطن العربي، وقفنا على المسرحِ والناس محشورون ضحى يرتقبون، تلعبُ المقدمةُ بأعصابنا، وأعود أقول أنني كنت أمشي على حبل لا أدري أهو آيل إلى التمزق أم الوثاق، لكن الأمر كان سيان ما دام الله ربي. لحظاتٌ حتى تعلنَ بعدَ المركز الثالث الفلسطيني أن الثاني عماني حصلت عليه مزنة بنت مبارك، يا للطف الله الذي يبكمني!

كلمةُ الأول الأردني كانت بليغة، وكلمةُ الفلسطيني الثالث بلغت حد النصاب ففاضت الزكوات حتى لم أدرِ أين أكتنزها والمسلمون أغنياء، أمسكت بالمكبر بصوتٍ متحشرج يبدو قلقًا، لم أكن متوترة بل لا أعرف ما كان ذاك! قلت: "( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) ، الحمدلله المتفضل علينا بهذا المركز. في البداية أقول أننا نحن نقرأ لنبني الأمة، لا نقرأ لأنفسنا نقرأ لنبني الأمة، ثم أقول كما قال؛ أننا نقرأ لنرفع شأن هذه الأمة، لنصل إلى عز هذه الأمة، وعزها لا يكون إلا بتحرير المسجد الأقصى، وبتحرير عقول المسلمين أولًا، ثم أراضيهم." ، كنت أحرصُ على عدمِ البكاء حين ألفظُ "المسجد الأقصى" بعد قول الفلسطيني وفي ذاك الموقف وأمام الحشود العظيمة. ووفيت بحرصي.

ما إن نزلت من المسرح حتى اجتاحني حضن أمي تبكي بكاءً شديدًا فرحًا، كنت أحاول أن أهدئها حتى اجتاحني بكاؤها فبكيت، تتابعت الأحضان والتهاني علي بعدها، وما إن أخبرت أخواتي وصديقاتي وأهلي حتى ضج الفرح فينا، الحمدلله حق حمده.

بعد الغداء، تفاجأت أننا لن نخرج كما خططنا بل سنذهب للمطار لنعود إلى عُمان، لم أطق كتمان حزني العاصف حينها، لا للمكانِ الذي سنذهب إليه بل لأنني لم ألحق على التعرف على الوفود عن قرب، لا زال تأنيب الضمير فيّ كأنه حديث ولادة، كنت أحترق لأنني لم أجد سبيلًا إلى القرب من الوفد الفلسطيني لأخبرهم بما يختلجُ في فؤادي، وأنا إنسان لا يحتمل كتمان رسالة أو شعور تجاهَ أحد إلا أخبره فورًا. كيف أعود لأذاكر بجد دروسي وحدي وهم هنا جميعًا؟ لا أعرف. كلُّ ما أعرفُه أن هذا الصبر والجهاد هو تمامًا ما يوصلُنا إلى القوةِ والتكتل، هو الصراط إلى فلسطين -ورقينا وعزنا-.

تنهيدة تتبعُها ألف تنهيدةٍ وأنا أجر حقيبتي وحقيبة أمي في المطار، كل الاصطدامات المرنة وغير المرنة في داخلي أفضيتها إلى سجدةٍ تتولى أمر تهدئتها، صعدنا إلى الطائرة تحدوني آمال عظام، تجاهلت الظلام الذي تلبسه الطائرة لأضيء مصباح القراءة وأقرأ كتاب (الطريق إلى القدس)، أتنهد كثيرًا حتى نصلَ إلى عمان وعيناي على رحلةِ عمّان التي وصلت لتوها وعلى حزام استلام الحقائب (٣) لألتقي بهناء التي عادت أخيرًا إلى الوطن ، لا أجدها! أحسب الحكايةَ قد انتهت، أكاد أغلقُ كتابَ رحلتي بقفل.

ياه! لم تنتهِ الحكايةُ، صديقاتي وأخواتي في استقبالي وأنا مصدومة عجبى! من أين لهن التجمع والاتفاق جميعًا؟ وكيف أتى الورد؟ وأنى لهن أن يخرجن في هذا الوقت المتأخر من الليل لاستقبالي؟ أظنُّ الرحلةَ قد انتهت هنا لأنني لا أستطيعُ الوصفَ أكثر.


٢٨-٥-٢٠١٥م

هناك 6 تعليقات:

  1. هنيئا لأمتنا بأمثالك! بارك الله فيك مزنة :))

    ردحذف
    الردود
    1. اللهم اغفر لي ما لا يعلمون.
      هنيئًا للأمة بك مروة!
      آمين وإياك.
      أأنهيتم أخيرًا؟ تواصلي معي بالبريد!

      حذف
  2. تبارك الرحمن..
    لله درك! لله درك مُزن❤️

    ردحذف
  3. تبارك الله
    مُزنة ماذا أقولُ فيكِ !
    عَظيمةٌ أنتِ، عظيمٌ حرفكِ
    أبهرني هذا السبك ماشاء الله
    باركَ اللهُ في عمركِ وأزهره، مبارك عليكِ هذا الإنجاز
    عُمان تفخر بكم

    بورك فيك ❤️✨

    ردحذف
    الردود
    1. ستر الله وحسن ظنكم :")
      آمين آمين آمين وإياكم! عساها تقعل حقًا!

      حذف