الثلاثاء، 12 أغسطس 2014

ابنُ آدَم الخَلِيفَة -2

حين قالَ الله أنّ الخليفة الجديد سوف يخلق الآن ؛ تفاجأ الملائكة  مما سيكون، أولئك الملائكة الذين يرتبط اسمهم دائمًا بالخير المطلق حين سمعوا بالخبر تخيلوا الشرّ، ربّما قد خاضوا تجربةً سابقةً مريعة أو أنهُم لا يستطيعون تصوّر وظيفةً من خلق غير التسبيح! فافترضوا أنها الحقيقة الوحيدة في هذا الكون وغيرها شر، فقيل لهم "إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ" !
كانت غاية الخلق الأولى أعظم مما يستطيع تصوره أي كائن، فـ"خليفة" هي أكثر من خمس حروف عابرات . كانت الملائكة حينها تسبح بحمد الله وتقدس له وترى أنها لا تتفانى في ذلك ولم تقصر يومًا، فأنى يخلق الله شيئًا قد يفكر أن يفسد ويتمرد بالعصيان ببساطة؟! ربّما كانت غايةُ الخلق أعظم من التسبيح، كانت غايته تطبيق التسبيح في الأرض؛ عمارة الأرض!
سخّر الله هذا الكائن الجديد لكي يكون كما يقال في إعلانات العروض المغرية (2 في 1) ! لكي يكون مسبّحًا عمارًا للأرض ، لكنّه -مع بالغ الأسى والتعازي- نسي غاية خلقه فتظاهر بالإعمار وهو لا يملك من التسبيح أي جزء ولا هو قد أتمّ إعماره بخير ولا سبّح! إذن للذين نسوا تسبيحهم وتعميرهم أقول: راجِع حساباتك، لماذا تكون -وزنًا زائدًا- عالة على أرض الله؟!
نعود لموضوع الخلق مجددًا، أسائلكم؛ لمَ لم يأمر الله ملائكته بتعمير الأرض؟ أولم يكن قادرًا على ذلك؟ أم أنهم سيقفون وقفة احتجاج ويقولون "لن نفعل!" ؟ أرجّح أن حقيقة تعمير الأرض تحتاج كائنًا ذا طبيعة أقرب إلى الأرض ، فأقدر كائن على أن يعمُر دارًا أو يهدّها هو إنسان. نتساءل هنا، أولم تكن مهمته شاقةً عليه؟ فلنرسم في أذهاننا تصور التعمير كأنه برج ارتفاعه ميل، كيف يمكن لمخلوق لا يزيد طوله عن ستة أذرع أن يعمر ما يفوقه بأضعاف؟ ألم يُخلَق الإنسان ضعيفًا؟! بلى؛ هو ضعيف، لكنّه جُبِلَ على طبيعة فطرية صخريّة! الله حين خلقه لم يضعه في مكان أكبر مما يطيق ليراه كيف يلعب! {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} . خذها قاعدةً تنفعك إلى الأبد !
خلقَ الله الكائن الجديد والغرس فيه أهل للنمو، غُرِس فيه الإيمان والصبر والقوة والإرادة والهمة والرحمة، ووُهِبت له طاقات كامِنَة لم يمتلكها أحد، فمن لم يمتلك إحدى هذه فليتأكد أن الله قد غرسها فيه لكنه هو الذي اقتلعها من نفسه اقتلاعًا عنيفًا أحمقًا! خُلِق وهو أهل لأن يسعد بعمارة الأرض وهو يسبّح وتُزهر به الأكوان .
”خليفة الله في أرضه هذا الذي قد يفسد أحيانًا، وقد يسفك الدماء أحيانًا؛ ليتم من وراء هذا الشر الجزئي الظاهر خير أكبر وأشمل، خير النمو الدائم والرقي الدائم؛ خير الحركة الهادمة البانية؛ خير المحاولة التي لا تكف، والتطلع الذي لا يقف، والتغيير والتطوير في هذا الملك الكبير.“ *
خلق الله الكائن الجديد ، ولم يفتح له الأبواب على مصراعيها ليطلقه كما يفتح الراعي باب حظيرة الأنعام فتفز هاربة، بل علّمه . لا أتخيل كائنًا بشريًا يستطيع الوصول إلى حقيقة العلم إلا إن علّمه الله، وإن كان الذي علمه هو الله وحده ولم يوكّل أحدًا بتعليمه، فمن بقدرك أيها الإنسان؟ ثم أنت اليوم تفر هاربًا من ذكر العلم حتى وتهزأ به! علّمه حتى نعرف أن الحياة تحتاج منّا إلى علم، كيف بالله نواجه عالمًا لا نعرف أي شيء فينا ولا فيه ونفلح؟ يظل دومًا وأبدًا سبيلنا إلى التسبيح وتعمير الأرض، "وَعَلَّمَ" .
عُلم الإنسان الأسماء التي لم تعلمها الملائكة؛ لأنه يحتاج إليها أمس الحاجة بينما لا تحتاج إليها الملائكة المنشغلة بالتسبيح .
وإذا أردنا أن ندرك عجائب مكانتنا، فلنرَ إلى أمر ربنا للملائكة بأن يسجدوا لأبينا . أنّى يسجُد من "يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ" لـ"مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ" ؟ "إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ" !
أمرَ الله الملائكة المطهرين بالسجود لآدم الذي هو وذريته "مِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ" ، لله الحكمة العظمى فيما أمر، لكننا نستبين بعضًا من عجائب التكريم، أننا وُهِبنا قدرةَ المعرفة، ووُهِبنا قدرة الإرادة، نحن نعرف الحق والباطل، ونملك أن نختار الحق أو الباطل كأسلوب حياة! فماذا أجبنا داعي خلقنا؟ هُنا السؤال المطروح . نرجع ونقول أنه يستحيل على أي كائن بشري أن يدخل الجنة حتى يحقق اثنين، التسبيح والتعمير .
أما الآن، فقم واصرخ ملءَ فيك : "لقد صرتُ حمّالًا للأمانة التي كعّت عنها السماوات والأرض اعتِمادًا على لُطفٍ يأتِيني مِن حَضرَتك" .


_________________
*في ظلال القرآن، سيد قطب، ١/٦٦

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق