الأحد، 2 يونيو 2019

قَبَس 6

﴿قالَ هَل يَسمَعونَكُم إِذ تَدعونَ ۝ أَو يَنفَعونَكُم أَو يَضُرّونَ ۝ قالوا بَل وَجَدنا آباءَنا كَذلِكَ يَفعَلونَ ۝ قالَ أَفَرَأَيتُم ما كُنتُم تَعبُدونَ ۝ أَنتُم وَآباؤُكُمُ الأَقدَمونَ ۝ فَإِنَّهُم عَدُوٌّ لي إِلّا رَبَّ العالَمينَ ۝ الَّذي خَلَقَني فَهُوَ يَهدينِ ۝ وَالَّذي هُوَ يُطعِمُني وَيَسقينِ ۝ وَإِذا مَرِضتُ فَهُوَ يَشفينِ ۝ وَالَّذي يُميتُني ثُمَّ يُحيينِ ۝ وَالَّذي أَطمَعُ أَن يَغفِرَ لي خَطيئَتي يَومَ الدّينِ ۝ رَبِّ هَب لي حُكمًا وَأَلحِقني بِالصّالِحينَ ۝ وَاجعَل لي لِسانَ صِدقٍ فِي الآخِرينَ ۝ وَاجعَلني مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعيمِ ۝ وَاغفِر لِأَبي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضّالّينَ ۝ وَلا تُخزِني يَومَ يُبعَثونَ ۝ يَومَ لا يَنفَعُ مالٌ وَلا بَنونَ ۝ إِلّا مَن أَتَى اللَّهَ بِقَلبٍ سَليمٍ﴾ [الشعراء: ٧٢-٨٩]


ما أتعس الإنسان حين تختل موازينه، فيعطي من لا يستحق أكثر مما يجب، ويصرف بصره عن المعطي إلى المعطى فيبجله! أي بلاهة تصيب الإنسان حين ينصرف من تعظيم المتفضل الكريم إلى تعظيم المكرمة وتبجيلها لذاتها؟ كيف يتجاوز خيباته مرة تلو الأخرى والأشياء حوله تخونه، وهو ينهار معها لأنه لم يرَ سواها، ولو كان يرى ما وراءها، والعظمة الكامنة خلفها، والجلال والجمال الذي يحكم كل هذا ويسوقه ويسخره ويقدره؛ لكان أسعد، وأرقى، وأكثر طمأنينة وسكينة. ولكنه يخلد إلى الأرض في كل مرة يُذَكَر فيها، ويأبى. 

لو كنت ترى وأنت تصافح صديقك أنك تعامل الله فيه، وأنك تمتثل لله وهو يأمرك بإفشاء السلام، وتتقوى برؤية أخيك لله، وأنه مهما كان عونًا لك وسندًا فهو تسخير من الله وحده، لا بحوله ولا بقوته ولا بفضله، وما أغنى عنك شيئًا. لو كنت ترى وأمك تعاتبك، فتضايقك كلمتها، أنك تستنزل رحمات الله في ذلك الموقف حين تلين وتكسر كل نوازعك التي تدعوك إلى الاستياء وإبداء رد فعل سلبية، لتخفض جناح الذل من الرحمة، لأنه الله الذي نهاك عن تقطيبة وجهك عليها قبل أن تكون هي جسدًا وكيانًا تعب لراحتك. لو كنت تدرك أن طبيبك الحاذق قضى سنين طوال من عمره يتعلم ويتعب الليل والنهار لأجل أن يعالجك أنت بمهارة، لكنك ترى جهده وسعيه هامشًا على نص فضل الله وتقديره ولطفه بك إذ سخر لك هذا الإنسان ليبذل كل هذا لك. لو كنت تدرك أن غم مشكلتك مع زوجتك ربما لا تكون إساءة منها كما هي إساءة منك إلى الله، فتلجأ إليه وتستغفره وتسأله هو أن يصلح ما بينك وبينها، وأن يهدي قلبك وقلبها، وأن يديم الود الذي قذفه هو بينكما، ولكنك تغلّب كبرياءك ولا تعتذر لأنك تراها المخطئة، وتنسى أن الله هو الذي يصلح وأنك تحسن إلى نفسك عند الله قبل أن تحسن إليها. لو كنت ترى أبعد وأعمق، لكان الخير عامًا، ولكنت أرقى وأطهر، ولكنك تستند على كل ما أمامك، متجاهلًا قوة الله، ولطفه، وتقديره، وهو لا يزال يعطيك ويمن عليك وأنت تفرح بالنعمة وتنساه!

ما أحكم إبراهيم عليه السلام وهو يعي دون تفكير أن كل هذا لا يملك لهم شيئًا وأن الله وحده المتفضل، وهم بنظرتهم الضيقة لا يستطيعون بصرًا ولا سمعًا. يذكر معية الله له وفضله عليه في كل خطوة من حياته، حين خلقه، ويهديه في كل مرة، ويطعمه مما يحب ويشتهي ليل نهار، ويسقيه من أطيب ما قد يتمناه، وينتشله من ضعفه ومرضه إلى قوته وعافيته حين لا يغني أحد عنه شيئًا لا بنفع ولا ضر، ويموت فيحييه ويبعثه، ويظل يتجاوز عنه ويغفر له ويرحمه وحده يوم الحشر. يعلم سيدنا إبراهيم أنه لا يعقل أن يتجاوز كل هذا ليبتغي أي نفع أو ضر من أي أحد إلا بما شاء الله وقدر وسخر، فيطلب منه وحده كل ما يريد، ويستحضر الآخرة -وهي الأهم- والله مالكها، فيغدو قلبه قلبًا سليمًا طاهرًا.

 ونحن نظل نضيق أفقنا، ونرى بحمق إطار الصورة دون الصورة نفسها. متى يتسع أفقنا ونرى كل شيء بحجمه ببصائرنا قبل أبصارنا الضيقة؟

هناك تعليق واحد:

  1. ابداع حقيقة
    جزاك الله خير وبعد الخير
    جنات النعيم..

    ردحذف