الثلاثاء، 22 يناير 2019

ختمة في القلب

أودع أمي على عجلٍ لأنني عروس عرسها اليوم، أمي سعيدة سعادة لا توصف، تدعو لي كثيرًا قبل أن أخرج، أخرج إلى محل المكسرات القديم في سوق الخوض لشراء كيستين كبيرتين من الفُشار، أدعو القريب والبعيد إلى اللحظة الأسمى (فهمت ذاك الوقت لمَ تدعو الأمهات القريب والبعيد إلى أعراس بناتهن)، أرسم الآمال في ختمة مثالية، أصل إلى الجامعة، أتجه بأكياس الفشار وأنا عروس إلى ترفيهية الوحدة الثانية في مجمع 5، الوقت عصر، أشعر أن شمس تحتضنني وأنني أمشي على السحاب لا الأرض، أسعى بخفة فراشة، أصل، فاطمة تنتظرني، أتلو من بداءة الثلاثين إلى الناس وصلًا  في مصحفي الأخضر، أكبّر من بعد الضحى إلى الناس بعد كل سورة، أنتشي بالحاضرات؛ أسماء، ومروة، يكفين. أصل إلى اللحظة الحاسمة، أختم، أدعو، كوكب الأرض لا يسعني في تلك اللحظة، أحتضن فاطمة، أفتقد الأم الرؤوم التي رافقتني طيلة ثلاثين جزءًا؛ تلك التي كنت أهابها حين كانت تقرئ كوثر وهاجر لأنها كانت صارمة معهن، ثم تفاجأت أنها لم تزجرني ولم تشد علي ولا لمرة. كنت أنتظر منها أن تزجرني فلم تفعل أبدًا. هل لأنني كنت مجتهدة إلى هذه الدرجة؟ لا أظن، إنه لطف فاطمة. كل هذا والطفلة التي كانت في أحشائها وهي تقرئني لم أرها على أرض الواقع إلا في الصور إلى الآن، مشاعر لا توصف.

حنان الشيخ وهو يعلمنا ويفهمنا ويصوب لنا، المذاكرة الجادة ليلًا ونهارًا مع سارة التي أحمد الله أن سخرنا لبعضنا نحن ذوات الطبيعة المتشابهة في المذاكرة وأسلوبها، خرائطها الذهنية المبسطة ورسوماتها التي تبسط الحياة في عينيّ، تعليقنا كل هذا في خزانتنا التي يضحك كل داخل غرفتنا عليها، كل هذا في جهة، وحفل التكريم جهة أخرى، أمي وهي تكرّم دفعتنا كاملة برفقة الأستاذة زوينة وزوجة الشيخ، حضنها العميق الدافئ وهي مفتخرة بي وبإجازتي؛ شيء لا يشترى بأموال الدنيا كلها. نشوتها بعدها وهي تخبر جاراتها وصديقاتها وكل من تعرف أن ابنتي هذه مزنة مجازة برواية حفص عن عاصم تبعًا لابنتي المجازة الأولى. رغم كل هذه النشوة، شعور الثقل يبقى وأنا أسعى أن أكون على قدر الأمانة التي حُمِّلتُها.

كل هذا الشريط يعود، ويعود معه شريط ختم آسيا، ذلك الختم المميز في قلبي أبدًا، تيمينتها بعده وهي توزع الحلوى على الحاضرات، والشعور العظيم الذي تملكني وإياها في تلك اللحظة؛ تعجز الكلمات عن وصف كل هذا.

ختمة ابنتي الأولى، وحضور الجمع للختمة، مباركة الجميع ووصفي أنه شعور لا يوصف. ختمة أفنان وفخري بها، إجازتها وهي توسوس بعد اختبارها أنها لم نؤدِّ كما ينبغي وضحكي عليها وأنا أخفي كل ذاك الفخر في داخلي بها وهي التي ناضلت كثيرًا لتصل. كل هذه أشرطة عادت إليّ اليوم بختم نور. نور؛ الصديقة التي تذكرني دومًا بالقرآن، ذاك الشعور الذي راودني وهي تختم وتقرأ الفاتحة وتدعو، ذاك الصوت الذي اعتدت على سماعه يتلو تلاوة قريبة إلى القلب، وإن لم أكن شيختها؛ كنت أشعر بنشوة تشابه نشوتها وشيختها. بوركت الختمة وبلغت الرسالة.

حين أرى أسماء ومنيرة وهن ينتشين بذرياتهن القرآنية جيلًا بعد جيل؛ أستشعر كيف أن الخير الذي تزرعه يؤتي أكله كل حين بإذن ربه. كريمة وهي تشفق علي وتسعى لتنتقي لي جيدًا من سأقرئها، وأنا أدعو الله أن يسخر لي من تحيي روحي لأقرئها فتجاز وتعطي وتزهر كثيرًا، ثم يسخر الله لي فاطمة لتكون شرابًا باردًا بعد طول ظمأ ونصب، هذا من عطاء الله وحده الذي لا أوفي حمده مهما حمدت.

كانت نور تقول: لا أريد الختم. أشعر أنها أمانة ثقيلة لست أدري إن كنت أستطيع إيصالها، وأشعر أن مسؤولياتي تزيد وهمومي بالطبع ستزيد كثيرًا. قلت لها: لن أقول أن همومك لن تزيد لأنها تزيد أكثر وأكثر فعلًا، لكنها رسالة أخذتِها بقوة ويجب أن توصليها. ستشتاقين إلى كل لحظة، تحنين إلى شيختك والجهاد في الإقراء، ستتمنين أن يسمع تلاوتك أحد وربما لن تجدي، لكن لذة العطاء تفوق كل شيء. لذة أن تعطي ما تستشعرين أنه لو تقبله الله سيكون صدقة جارية تنفعك وأنتِ رفات لا تملكين لنفسك أي شيء. لذة أن توصلي المعلومة وتخرجين قارئة متقنة لا تضاهي أي لذة، واسألي شيخاتك فيخبرنك.

هذه الرسالة يجب أن تصل. إتقان تلاوة القرآن، أخلاق القرآن، تأمل كل آية والعيش فيها، رؤية القرآن في تفاصيل الحياة اليومية، وذكر الله ذكرًا كثيرًا، هذا ما لا نعيش نحن دونه وإلا هلكنا. هذه الأمة التي تحتاج إلى القرآن لكي تنتعش، تحتاج إليك أنت لتحمل الرسالة وتوصلها. من خمسين قرية أتينا، من ألف سكة، من عائلات كثر وأصدقاء أكثر ومجتمعات مفتقرة، وصولًا إلى كوننا مؤسسات أسر ومربيات أجيال تحتاج الأمة إلى قوتها وعزتها، كل هذا يهوّن علينا ثقل الرسالة وتأتأة الكلام وصعوبة إيصال المعلومة وهموم الليل والنهار التي تقض المضاجع. خلقنا لأداء الرسالة؛ فلنؤدها حق الأداء.

إلى بناتي في الإقراء، إلى ابنتي فاطمة، إلى كل من أحب تحت مظلة القرآن، فلنحمل الكتاب بقوة ليجعلنا الله مباركين أينما كنا. اللهم علمنا ما لم نعلم، وفهمنا ما لم نفهم، واهدنا الطريق الأقوم.

هناك تعليق واحد:

  1. يا الله✨
    ختم أمنا مُزنة العيد بعينه، لم أكن أعرفك حينها والا أجزم أني سأكون أول الحاضرات لاحصل على جزء من النور والأحضان والفشار وشيء من الدموع الدافئة...
    كل مقرئة مرت علي سمعتني أردد: لا أريد أن أختم، لا أريد أن أختم... أنعم الله على وختمت، تحولت تلك العبارة إلى: لا أريد أن أجاز، لا أريد أن أجاز... تفضل الله علي وأجزت (الحمد لله)
    فُطمت وصرت أما أسرع مما تصورت، أولى بناتي صارت أما كذاك (كل شي يمر بسرعة ونسأل الله القبول والتوفيق)
    بالأمس اتصلت ابنتي لنقرأ (لا نستطيع الوصول لبعضنا لذا نواصل الاتصال حتى لا تنضب قلوبنا)، قالت أختاي: من المتصلة؟، ضحكتُ:طفلتي (لم أتخيل يوما أني سأصف أحدهم بهذه الكلمة)، ردت أختاي: عووين عندها عنوونة! سيري قريي صغيرتش... كان موقفا مُخجلا ودافئا.


    لذة العطاء لا توصف، أن تنظري لأحدهم، وتناجي: يا رب إنها غرسي فتقبله وأصلحه وبارك فيه...
    نخطئ كثيرا ونتعثر ونضعف ولكن الله قوتنا لذا نصمد، ومن القوي سواه!

    بارك الله فيك أمنا مُزنة وفي بذورك❤️❤️

    ردحذف