الخميس، 25 سبتمبر 2025

عام من الغيث 🌧️

 كنت أظن أن الأمهات يبالغن حين يقلن إن مولد أبنائهن غيّر الدنيا في أعينهن وتوردت قلوبهن وأزهرت حياتهن، لكن -ويا للغرابة!- بدا أنهن لم يكنّ يبالغن أبدًا.. 


"أحبه حب الشحيح ماله
قد كان ذاق الفقر ثم ناله" 
وصف أعرابي حبه لابنه فصاغ ما في فؤادي، يهب الله الآباء أبناءهم هبةً، لا عطاءً مستحقًا، ولا بجهد بذلوه، بل هي هبة خالصة من الله، تزهر قلوب الآباء بهذه الهبة كما لا تزهر بأي شيء آخر، وتهبهم عمرًا جديدًا يفنونه لراحة صغير لا يبالي براحة والديه، بل يصرخ طالبًا حاجاته، فيركض الآباء لبسط سبل الراحة للصغير، دون أي سبب معقول، ودون معادلة مفهومة، بل هي معجزة يقذفها الله في قلوب الآباء، وتسخيرًا منه إياهم لراحة الصغار دون مقابل، لا يريدون جزاءً ولا شكورًا، إلا أن يكون إنسانًا صالحًا نافعًا معمرًا للأرض عابدًا لله، فتصير أوقاتهم وجهودهم التي أفنوها في سبيل تربية الصغار صدقتهم الجارية التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها حتى بعد موتهم، يا لها من تجارة رابحة مع الله!


غيثي، صغيري الذي أغاثني الله به بعد جدب،
ظننت أنني أفنيت حبي وتفانيّ مع الصغار مع أبناء خالاتك، لكن حين أتيت أثبتَّ لي أن حبهم كلهم في كفة، وحبك وحدك في كفة أخرى راجحة بلا منافس. أكملت عامك الأول يا صغيري، قلبي تتفجر أنهار الحب والسعادة منه كلما ضحكت أو حضنتني أو حتى خطوت خطواتك المتأرجحة، ما هذه المشاعر الغريبة التي لم أخبر لها مثيلًا؟ لا أدري، ما أعرفه أنك هبة الله التي أحيتني من جديد، وغيث أصاب جنة بربوة فآتت أكلها ضعفين، وقلبي هو هذه الجنة، ولم يكن ليهنأ بأي إنجاز -بعد حفظ القرآن- أكثر من تربيتك، هذه فطرة فطرني الله عليها مهما حاولت التنكر عليها بإنجازات مزعومة! 

مرّ عام من الأمومة، لم يكن سهلًا، كان محفوفًا بالصعوبات، لكنه حلو المذاق، أحلى من أي طعام لذيذ يمكن التشبيه به.. مرّ عام سريع، بطيء في لحظاته الصعبة حتى تمر، لكنه سريع والعمر لحظة، والدنيا ساعة.. أسأل الله أن يجعلك ذخري وصدقتي الجارية وعملي الصالح..

غيث، اجتهدت في هذا العام أن أطور مهاراتك بما أستطيع، أن أسمعك القرآن كثيرًا، أن أقرأ لك، أن ألعب معك، أن نقضي أوقاتنا المحفوفة بالحب والرعاية من أدق التفاصيل إلى جلها.. لن تتذكر أي شيء حين تكبر، ولكن أرجو أن يكتب الله في صحيفتي كل هذه التفاصيل، وكل الأوقات التي بعتها واشتريت تربيتك والعناية بك، ابتغاء رضا الله، وابتغاء أن تكون ولدًا صالحًا قويًا نافعًا، أصلح مني ومن أبيك رغم اجتهادنا أن نكون صالحَين ليجعلك الله كذلك.. 

تؤلمني تفاصيلك يا بني حين أقرنها بما يحدث لإخوتك الصغار في غزة، يحرقني جوعهم وأنا أفقد صوابي حين تجوع وأنا أستطيع توفير اللقمة والحليب لك، فكيف بمن لا يستطيعون؟ توجعني القصص، وأنهار بكاءً لقصة أبوين جاء ابنهما على عطش بعد أعوام طويلة ثم قتله الملاعين ببساطة، أتميز من الغيظ، فأخرج غيظي في تنشئتك تنشئة صالحة، وأدّخرها لتكون سببًا في نصرهم بإذن الله، فإياك ألا تكون! 

ابني حبيبي، خطواتك الواثقة الأولى كلما أسعدت قلبي دعوت أن يجعل سعيك كله في سبيله، وعامك الأول الذي أتممته أدعو الله أن يجعله وعمرك كله في رضاه، أدعو الله كثيرًا ليعينني وأباك على تربيتك، وليجعلك ذخرًا للإسلام والمسلمين، نفّاعًا حافظًا عاملًا، غيثًا على أمة عطشى يا رب..

﴿رَبَّنا هَب لَنا مِن أَزواجِنا وَذُرِّيّاتِنا قُرَّةَ أَعيُنٍ وَاجعَلنا لِلمُتَّقينَ إِمامًا﴾ ❤️

السبت، 3 أغسطس 2024

المزلزلون.

نحن المترفون في بيوتنا الباردة صيفًا الدافئة شتاءً، الممتلئة خزانات مطبخنا وثلاجاتنا بشتى أنواع الأطعمة التي تكفينا لأشهر، ورغم ذلك نطلب طعامنا من المطاعم ما نشتهي، نحن الغارقون في النِعَم حد النسيان والغفلة، تزلزلنا أخبار الشهادة زلزالًا شديدًا، أما أولئك المجردون من أبسط نعمة عندنا، الذين باعوا ديارهم وأموالهم وأهليهم وأنفسهم والله اشترى، قلوبهم راسخة رسوخ الجبال، لا يجزعون كما نجزع لفقد أبسط نعمة، وهم قد فقدوا كل شيء، شتان شتان!

مرت أكثر من ثلاثمائة يوم والدم النازف هو الدم، والجوع هو الجوع، والقهر هو القهر، والفقد ينزف أكثر من الدماء التي غمرت كل شبر من أرض غزة، أما نحن فقد نسينا واعتدنا المشهد وعدنا لحياتنا وقلة حيلتنا، واستندنا إلى هواننا على الناس فما عدنا نستنكر ونشجب، وهو ما كان أضعف من أضعف الإيمان. أهان علينا العضو المشتكي فلم يبالِ الجسد به؟

صقلت شدة الابتلاء قلوب المؤمنين في غزة فصارت ذهبًا لامعًا، تكاد تبصر بعينيك وتلمس بيديك نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم وهم يجاهدون في الله حق جهاده، أما نحن فلم نذق طعم البلاء المزلزل ومللنا من بلائهم، تعبت أجسادهم من شدة الابتلاء ولم تستكن أرواحهم ولم تضعف ولم توهن، فمن أحق بالأمن؟

يصبّر الصائم نفسه ويمنّيها بعدٍّ تنازلي لأذان المغرب لأنه موقن بالفِطرِ بما يحب ويشتهي، ويعلم لذلك أجلًا مسمى فيهون عليه تعبه وجوعه، أما المزلزلون في غزة فلا يعلمون لصيامهم موعدَ فِطر، ولا حتى موعد شهادة حتى يرتاحوا من شدة البلاء، ولكن تثبتهم كلمة الله: "فاصبر إن العاقبة للمتقين". 

الاثنين، 11 سبتمبر 2023

رزق واسع.

 أبهى مفاخرك، وأبهج أفراحك قد يخفت بريقها عندك يومًا بعد يوم. مع الرتابة وقلة الحمد وسُخف الرضا، تتحول أقصى أماني الفاقد عندك إلى كبش سمين للشيطان حتى يبصّرك بذبول ما عندك وحُسن ما عندهم، ولا تدري أنت المسكين أنه يعميك ولا يبصّرك حين يرفع وجهك ويمد بصرك إلى غيرك، وأنه يضع على عينك غشاوة التطلع وعلى قلبك ختم السخط. أنت لا تشعر أنك ساخط، لكنك بشغف غبطة الآخرين لا تقدّر الحلوى التي ما نالها أبوك إلا بعرق جبين أشهر بينما تنظر إلى تنعّم أولاد المدرسة بها كلّ يوم مع المسك والعود! قتل الإنسان ما أكفره!

فراغك أقصى منى المشغول، شغلك أقصى منى الفارغ، امتلاؤك أقصى منى الفارغ وفراغك أقصى منى الممتلئ. "قد وزع الله بين الخلق رزقهم  لم يخلق الله من خلق يضيعه"، لكنك تغفل عن رزقك الذي تتعدد أشكاله وتمد بصرك إلى شكلك المفضل للرزق عند زيد وعبيد اللذان بدورهما يتمنيان شكلهما المفضل للرزق عندك، لا أنت رضيت ولا زيد رضي ولا عبيد، ولا نظر أحد منكم إلى امتلاء كأسه بالرزق -متعدد الأشكال- حد الفيض! ما أكفره!

﴿أَلَم تَرَوا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرضِ وَأَسبَغَ عَلَيكُم نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً﴾، لم يستثنِك من الرزق المغدق والنعم السابغة، ﴿وَإِنّا إِذا أَذَقنَا الإِنسانَ مِنّا رَحمَةً فَرِحَ بِها وَإِن تُصِبهُم سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَت أَيديهِم فَإِنَّ الإِنسانَ كَفورٌ﴾!

الأربعاء، 12 أبريل 2023

هُوَّة الفتور

 تمشي في مناكب الأرض وفي جوفك قرآن يسعدك، تمشي، فتسقط فجأة في غيابة جب مظلم لا قعر له، تستمر في السقوط وأنت تدرك سقوطك وتصرخ وتحاول التشبث بكل ما حولك، ولكن دون جدوى! الظلام يزداد، والقعر يتلاشى كلما سقطت أكثر.. تحاول التمسك بخيط ضوء فلا تستطيع الإمساك بشيء، تهوي دون سيطرة مهما حاولت التصرف.. تستسلم للهوي في لحظةٍ ما، تكتشف أن شيئًا ما مات في داخلك مهما حاولت استحياءه، "إنك لا تسمع الموتى"، ولكنني كنت أحاول ألا أموت يا رب! 

يقتل الفتور روحك وينسفها نسفًا، تحاول التشبث بمصحفك فلا تستطيع، تجاهد لتثبّت قلبك بآية فتشعر به يُنتزَع من جوفك دون أن يستقر فيه شيء. تحاول أن ترغم نفسك على التشبث، فإذا هي تتمزق ألمًا دون أن تستطيع التشبث، أين نعيم السرد؟ أين حلاوة المعنى؟ أين خفة القلب بالآيات؟ أين لذة وقوع آية في قلبك أو رؤيتها مشهدًا حاضرًا أمامك؟ تلاشى كل شيء، وبقيت جسدًا ميتًا دون روح، تحاول استعادة روحك فتجدها فنيت.. هل أوتيت قدرة عيسى عليه السلام في نفخ الطين فيكون طيرًا بإذن الله أو إحياء الموتى؟ لا.. لكنك تحاول! 

لا يموت الغريق حتى يكف عن محاولة النجاة، يستمر في الرفس حيًا حتى إذا توقف عن المحاولة مات. الفتور غرق لن تموت فيه مهما اشتدت الأضرار وآثار الاختناق عليك إلا إذا قررت الاستسلام والموت. تدعو في وسطه دعاء الغريق الذي فقد الأمل إلا خيطًا واحدًا منه، دعاء المضطر للنجاة، تصلي صلاة المتبرئ من كل حوله وقوته إلى حول الله وقوته، تدرك حقًا أن الله المحيي المميت الباعث الرشيد الهادي وتتضرع إليه وتتوسل بكل ما تملك، وتكاد تقسم أنك تستطيع التخلي عن كثير من النعم مقابل أن يهبك الله الأمن في فؤادك ويعيد إليك خفة العبادة على قلبك ويمنحك السلام بديلًا للجوى، تدرك أن لا شيء يعدل هذا الشعور الذي ظننت أنك تملكه ما دمت مقبلًا على القرآن، واكتشفت أنه يملكك ويقلّبك بين إصبعيه، أو اكتشفت أكثر أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وإن شاء أرسل حتى لا تسعك السماء، وإن شاء أمسك حتى تضيق عليك الأرض بما رحبت وتضيق عليك نفسك، وإن ضاقت عليك الأرض قد تطيق استحمالًا، أما إن ضاقت بك نفسك فلا طاقة لك!

بعد طول القبض حتى شعرت أنك ستموت دون بسط، يبسط الله لك من واسع فضله حتى تحلق في السماء من سعة العطاء، يمطر عليك الخير كله فتشرق روحك وتتسع اتساع الكون، تقبل على القرآن بقوة تنهل بشغف بالغ، تتذوق حلاوة النعمة وتدعو الله أن يكون عهدًا دائمًا متصلًا إلى أن تلقى الله على قوة وأخذ قوي للكتاب، تعاهد أن تزيد الجهد مقابل الفتح، وأن تداوم ما حييت لئلا تموت روحك.

يمضي رمضان ويخرج الفائزون منه بقلوب أتقى وأطهر، يخرج كل واحد منهم بملء وسعه من الهدايا فرحًا جذلًا، ويخرج بجراب ضخم من التقوى والنقاء يكفيه لعام كامل.. بم ستخرج؟ هل ستدع شبح الفتور يأكلك هذه المرة؟ أم ستستمسك بكل ما أوتيت من قوة بالصادقين المفلحين لئلا يفوتك ما بقي من نفحات العشر ليأخذوك بقوة إلى قوة العبادة وإن كنت ضعيفًا لوحدك؟ يا صاح اركض ولو برجل عوجاء وقلب نازف، ففي أي زمن ستجبر إن لم يكن جبرك وقوتك هذه الأيام؟

تقبل الله منك جهادك وحربك الكامنة في صدرك ولا يراها أحد ولا يشم دخانها سواك. أنزل الله عليك السكينة والسلام والأمن الذي جعله لعباده الصالحين حتى يرضيك وتهدأ نفسك ❤️‍🩹. وابقَ على سعيك ما حييت، فالموت انقطاع سعيك ورضاك بالظلمات!

الأربعاء، 22 فبراير 2023

سكاكين التردد..

 تقرأ قراءةً حلوةً عذبة، تقف عند الكلمة الأولى لتعيدها، تتجاوز الآية، تقف في وسط كلمة أخرى لأن الحرف الذي مرت عليه لم يعجبها، تتردد وتكمل، يبدو أنها تقاوم جيشًا من الأفكار التي تقرئها في داخلها وتقول لها أنك لم تلفظي هذا جيدًا وهذا الحرف صفته ضاعت، دون أن تنبس شيختها ببنت شفة! كيف تغلبها الشيخة التي بداخلها وتصب عليها هذا الكم من الأوامر والنواهي؟! المصحف الأخضر نفسه، والطبع نفسه، والأماكن تتشابه، والزمن تغير!


أي مقدار من الصراعات تعيشها تلك التي ترتل ترتيلًا مجودًا لا أحسن منه، وتقاوم سيولًا جارفة من الخواطر؟ تستجيب لها مرة وتتجاهلها مرات، تعيد وتزيد.. كأني بها وهي تقاوم الصخب بالهدوء، مواجهة وجهًا لوجه، دون أن يبدو عليها أثر الصراع كثيرًا.. لكنني أعلم، لأن هذه أنا قبل ست سنين!


بنيتي، إنك إن خضعتِ لما تمليه عليك أفكارك تعبتِ.. ما أحسن تلاوتك! وما أحسنك مجاهدة ساعية! لا تقطعي حبل حسن أدائك بسكاكين ترددك، قولي لنفسك: هلّا سكنتِ وأفسحتِ للأنس والأمان مكانًا في قلبك بدلًا من تضارب الأفكار التي تقول لك أن ذا وذاك خطأ وهو يسري على قلبي عذبًا سلسبيلًا سليمًا حسنًا؟ لا أخفيك أنني كنت مثلك تمامًا، تقرئين وتترددين وتنازعين نفسك وأراني فيكِ جالسةً أصارع نفسي وأنا أقرأ أمام شيختي، ثم ما لبثت السكينة أن فارقتني إلى أن أنزلها الله ومنّ عليّ مرة أخرى، فوجدت الأمان في قلبي، والإتقان في تلاوتي، واكتشفت أن أكبر أعدائي الذي يدمّر تلاوتي هو نفسي المترددة الوجلة! هلّا استجلبنا السكينة بعيدًا عن كل الهواجس؟


يدي بيدك حتى نأخذ الكتاب ونصل بقوة، بتلك القوة التي تنبعث من دواخلنا باستشعار فضل الله علينا ومدده بالسكينة، وبأن أن نثق أكثر؛ لا بأنفسنا الضعيفة فحسب، بل بالله الذي وهبها ولم يقطع عنها إحسانه طرفة عين، فهل ننظر بأعين بصيرتنا إلى فضل الله ونستمسك به بقوة؟ أم نفسح للشيطان أفئدتنا ليغزوها بالتردد والشك والضعف؟ هلّا أخذتُ بيدك لنصل بقوة؟

السبت، 4 فبراير 2023

ابنتي القرآنية شيخة!

 اقترب الختم يا بنيتي! ها قد كبرتِ وزاد اعتمادك على نفسك في تصحيح الأخطاء، بدأتِ تدركين أكثر وتميّزين، ويطمئن عليك قلب أمك أكثر بعدما كان ينقبض بشدة عند كل خطأ، صارت تلاوتك عذبةً سلسةً باردةً على قلبها، وبدأت تثق وتطمئن على عينيك الحذرتين وأنتِ تحدرين بسلاسة ورشاقة، ولا يكاد يتأذى قلبها بلحن إلا وتتداركين فيقع استدراكك بردًا وسلامًا على قلبها.. 


وتكبرين.. وفرح التقدم والإنجاز وإتقان علم التجويد النظري يصنع أعيادًا في قلب شيختك، ومدح الشيخ وصفت لك لا يساوي الدنيا كلها، وحسن تلاوتك تبعد عن فؤادها أذى الدنيا كله.. إلا اللحون غير المستدركة، يظل وقعها شديدًا على قلبها، بل أشدّ من أي وقت مضى..
 هل ستبكين؟ ربما تنهي الجلسة بحزم وتقول أنها ستذهب إلى عرس وتوصيك أن تكوني بخير وتدير ظهرها عنك وتتركك تظنين أنك وحدك، لكن براكين قلبها لن تخبو مهما كثر الراقصون حولها في ذاك العرس.. ربما تلجئين إلى النوم لتخففي عنك حزن إنهاء الجلسة، ومؤكد أنها لن تنام.. 

تظنين أنك وحدك تعانين، وتدركين بعدما تصبحين أمًا قرآنية أن معاناتك أشد، لأنك لا تملكين لسان ابنتك ولا فؤادها ولا تركيزها وليس لك من الأمر شيء! ستدركين أن حزنك المخبأ يحرق أكثر من استيائك البادي عليك وأنت تقرئين وشيختك حازمة معك.. ستدركين يا بنتي أن الأجور المتصلة لا تُدرَك بالمتعة دون أذى كثير، وأن صدرك يجب أن يكون أوسع من السماء لتكوني معلمة قرآن صالحة، ستدركين أنك ستبدئين طريقًا جديدًا من تهذيب نفسك لتكوني أمًا قوية؛ هينة لينة، وحازمة لا تضيّع الحدود. 

بنيتي، خذيها مني.. لا تفرّطي في ميزانك. لا تجلدنّ نفسك حتى تهلك من مجاوزة حد اللوم، ولا تلقي باللوم على إبليس وأنتِ لستِ متسلحة بكل الأسباب المتاحة. أنا أعلم أنك تعبتِ، والله يرى ويسمع، لكنّ حبل الأسباب مع رجاء الله يا ابنتي لا يُترَك ولو بقي منه خيط واحد، لا تقولي أوشك على الانقطاع، تشبثي بذاك الخيط بقوة، فقد يأتي فتح الله لتشبثك به ويبدلك عن الحبل عشرة حبال متينة. لا تقطعي رجاءك ببذل الأسباب ولو دبّ اليأس إلى قلبك، فأنتِ تدعين الله. 

بنيتي، لا يضيع الله عمل عامل يسعى إليه، مهما بلغه الجَهد وتقطعت به السبل، فانتفضي ودعي الضعف واليأس لأهله، فأنتِ القرآن صاحبك الذي يمسح على مواطن ضعفك ويجبرها حتى تصيري قوية بقوته. فهلّا تركتِ الحزن البادي على عينيك وأبدلتِه جهدًا وسعيًا؟ فالحزن لا يوصِل إلا إذا كان محرّكًا لعمل، وإلا فهو يشدك إلى الأرض لتركني إليها، ولا تصلين يا بنتي كذلك!

حبيبتي، كل صبر تتجشمين عناءه سيغدو حلوًا على قلبك بعد أن تتقوي وتقوّي إنسانًا بكتاب الله، كل أذى تلقينه في هذا السبيل يهون حين ترين أمَةً لله تتمسك بالقرآن ليصير منهج حياة لها وثباتًا، كل همٍّ وغمٍّ يندرس ويبقى أثر القرآن، تبقى أبدًا الصدقات الجارية التي تسعين قدر استطاعتك أن تكون سببًا في غرسها لتجني ثمرها ما حييتِ -بل وبعد موتك!-، أفلا تصبرين؟

ما انقطع حبل وصال امتد لله، ربما يشحّ اللقاء، وتشغل الدنيا، وتتكالب الأشواق علينا، لكنّ الوصلَ يا أمّي ممدود ما دام الود في الله ممدودًا، وما دمنا نسعى على الميثاق، كتاب الله وخدمته. 

لله أنتِ، تذكري دومًا ﴿ما أَنزَلنا عَلَيكَ القُرآنَ لِتَشقى﴾، ولا تنسي ما حييتِ ﴿وَمَن جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ العالَمينَ﴾، أنتِ المحتاجة، فأنفقي ولا تملّي، فنحن نملّ والله لا يملّ. إني نذرتكِ لله فكوني على قدر الأمانة، رب فتقبل مني إنك أنت السميع العليم.

الاثنين، 1 أغسطس 2022

ماء بارد على الظمأ.

مضى زمن بعيد مذ سِلتُ في نص، اشتقت فيه إلى نفسي أكثر من شوق أحدكم إلى نصي. لم أستطع الكتابة تارة، وأردت الفيضان ولم أجد وقتًا له حتى جفّ ما وراء السدّ، لكن الله الباقي باقٍ، وإبقاؤه الأشياء رغم قحط الأرض من بقائه، فالحمد لله.


كيف يفيض مورد كاد أن يجف؟ هل يفيضه إلا القرآن وأهله؟ انقطعت عن هذا العالم زمنًا، والحمد لله الذي لم يقطعني عن القرآن وأهله أبدًا. بآية من هنا وهناك، وتصحيح لحرف وحكم، وثبات لحفظ وربو معنى وزهر قلب بعد وقع آية عليه وقع المطر على الجرد. قد يضيع الكاتب إن انقطع عن فيضانه، ولا يضيع المستقي من ريّ القرآن وأهله وإن طال يبسه. 

سفر الحياة لا يمسّك وعثاؤه ولا يقربك ما دام القرآن صاحبك وحبيبك. يتشكل قلبك الأجرد برواء القرآن، تصبح كل أراضي قلبك مخضرة خضرة صلالة في الخريف، يرتوي حد الفيضان، وينظر الناظر إلى قلبك وسلوكك نظر دهشته بشلالات دربات. تنتعش من حيث تشعر ولا تشعر، تصبح في بداية طريقك مع القرآن شخصًا عاديًا، وتمسي مؤمنًا لا تكاد تهزه أية عاصفة. هل تحسبني أبالغ؟ جرّب إن شئت واصحب القرآن وأهله وأنت تنوي الاستسقاء لا التجريب، وذق المن والسلوى! 




كنت -قبل صحبة القرآن- أتشوق إلى الجو اللطيف بعيدًا عن رمضاء مسقط، وإلى الخضرة والماء والحُسن بعيدًا عن جدب سيوحها، إلى المسافرة تلك والمتمتع ذاك، إلى البلد الماطر والفراشات المتطايرة، كانت متعة مؤقتة جدًا، لم تشبع أي شغف داخلي. في صحبة القرآن، سافرت صويحباتي إلى شتى بقاع الأرض مستأنسات بالجمال. لم يسلب قلبي جمال الأرض ولا خضرتها ولا لطف نسمات الهواء الذي يداعبني من صورة أو مقطع مصور، بل سلب لُبّ قلبي أن صور الجمال لم تخلُ من مصحف إحداهن مع جمال الطبيعة الأخاذ، سلب لُبّي أن الصاحب والحبيب كان الأنس والجمال في وسط الجمال، وأن كل الخضرة والجمال جَدبٌ دون آيات. 

ما الداعي لمخالطة كل ذاك المتاع ومزاحمته بالآيات؟ الداعي أن برد الرضا لا ينسكب في قلبك من جمال وزخارف الدنيا مهما احلوّت، وأن مدّ العين إلى المتع وحتى مدّ اليد إليها لن يشبع في داخلك إلا اللمم، بل رزق ربك خير وأبقى. لن تنفع أحسن مدارس العالم في تثبيت هذا المعنى في قلبك ما لم يثبته القرآن. في داخلك ثقب أسود قد يبتلعك إن لم تسدّه بالقرآن، فؤادك هواء مهما حاولت أن تبدو نضِرًا، لن يشبع نهمه إلا آية. 




في حُسنِ أوروبا تتم ابنتي القرآنية حفظ خمسة أسداس القرآن، وفي خضرة صلالة تقرأ لي الأخرى حتى يبرد قلبي وقلبها، ذلك لتعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها بالقرآن إحياءه لأجمل أراضي الدنيا، وأنكم بالقرآن أحسن من حُسن الدنيا كله.