الاثنين، 11 سبتمبر 2023

رزق واسع.

 أبهى مفاخرك، وأبهج أفراحك قد يخفت بريقها عندك يومًا بعد يوم. مع الرتابة وقلة الحمد وسُخف الرضا، تتحول أقصى أماني الفاقد عندك إلى كبش سمين للشيطان حتى يبصّرك بذبول ما عندك وحُسن ما عندهم، ولا تدري أنت المسكين أنه يعميك ولا يبصّرك حين يرفع وجهك ويمد بصرك إلى غيرك، وأنه يضع على عينك غشاوة التطلع وعلى قلبك ختم السخط. أنت لا تشعر أنك ساخط، لكنك بشغف غبطة الآخرين لا تقدّر الحلوى التي ما نالها أبوك إلا بعرق جبين أشهر بينما تنظر إلى تنعّم أولاد المدرسة بها كلّ يوم مع المسك والعود! قتل الإنسان ما أكفره!

فراغك أقصى منى المشغول، شغلك أقصى منى الفارغ، امتلاؤك أقصى منى الفارغ وفراغك أقصى منى الممتلئ. "قد وزع الله بين الخلق رزقهم  لم يخلق الله من خلق يضيعه"، لكنك تغفل عن رزقك الذي تتعدد أشكاله وتمد بصرك إلى شكلك المفضل للرزق عند زيد وعبيد اللذان بدورهما يتمنيان شكلهما المفضل للرزق عندك، لا أنت رضيت ولا زيد رضي ولا عبيد، ولا نظر أحد منكم إلى امتلاء كأسه بالرزق -متعدد الأشكال- حد الفيض! ما أكفره!

﴿أَلَم تَرَوا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرضِ وَأَسبَغَ عَلَيكُم نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً﴾، لم يستثنِك من الرزق المغدق والنعم السابغة، ﴿وَإِنّا إِذا أَذَقنَا الإِنسانَ مِنّا رَحمَةً فَرِحَ بِها وَإِن تُصِبهُم سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَت أَيديهِم فَإِنَّ الإِنسانَ كَفورٌ﴾!

الأربعاء، 12 أبريل 2023

هُوَّة الفتور

 تمشي في مناكب الأرض وفي جوفك قرآن يسعدك، تمشي، فتسقط فجأة في غيابة جب مظلم لا قعر له، تستمر في السقوط وأنت تدرك سقوطك وتصرخ وتحاول التشبث بكل ما حولك، ولكن دون جدوى! الظلام يزداد، والقعر يتلاشى كلما سقطت أكثر.. تحاول التمسك بخيط ضوء فلا تستطيع الإمساك بشيء، تهوي دون سيطرة مهما حاولت التصرف.. تستسلم للهوي في لحظةٍ ما، تكتشف أن شيئًا ما مات في داخلك مهما حاولت استحياءه، "إنك لا تسمع الموتى"، ولكنني كنت أحاول ألا أموت يا رب! 

يقتل الفتور روحك وينسفها نسفًا، تحاول التشبث بمصحفك فلا تستطيع، تجاهد لتثبّت قلبك بآية فتشعر به يُنتزَع من جوفك دون أن يستقر فيه شيء. تحاول أن ترغم نفسك على التشبث، فإذا هي تتمزق ألمًا دون أن تستطيع التشبث، أين نعيم السرد؟ أين حلاوة المعنى؟ أين خفة القلب بالآيات؟ أين لذة وقوع آية في قلبك أو رؤيتها مشهدًا حاضرًا أمامك؟ تلاشى كل شيء، وبقيت جسدًا ميتًا دون روح، تحاول استعادة روحك فتجدها فنيت.. هل أوتيت قدرة عيسى عليه السلام في نفخ الطين فيكون طيرًا بإذن الله أو إحياء الموتى؟ لا.. لكنك تحاول! 

لا يموت الغريق حتى يكف عن محاولة النجاة، يستمر في الرفس حيًا حتى إذا توقف عن المحاولة مات. الفتور غرق لن تموت فيه مهما اشتدت الأضرار وآثار الاختناق عليك إلا إذا قررت الاستسلام والموت. تدعو في وسطه دعاء الغريق الذي فقد الأمل إلا خيطًا واحدًا منه، دعاء المضطر للنجاة، تصلي صلاة المتبرئ من كل حوله وقوته إلى حول الله وقوته، تدرك حقًا أن الله المحيي المميت الباعث الرشيد الهادي وتتضرع إليه وتتوسل بكل ما تملك، وتكاد تقسم أنك تستطيع التخلي عن كثير من النعم مقابل أن يهبك الله الأمن في فؤادك ويعيد إليك خفة العبادة على قلبك ويمنحك السلام بديلًا للجوى، تدرك أن لا شيء يعدل هذا الشعور الذي ظننت أنك تملكه ما دمت مقبلًا على القرآن، واكتشفت أنه يملكك ويقلّبك بين إصبعيه، أو اكتشفت أكثر أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وإن شاء أرسل حتى لا تسعك السماء، وإن شاء أمسك حتى تضيق عليك الأرض بما رحبت وتضيق عليك نفسك، وإن ضاقت عليك الأرض قد تطيق استحمالًا، أما إن ضاقت بك نفسك فلا طاقة لك!

بعد طول القبض حتى شعرت أنك ستموت دون بسط، يبسط الله لك من واسع فضله حتى تحلق في السماء من سعة العطاء، يمطر عليك الخير كله فتشرق روحك وتتسع اتساع الكون، تقبل على القرآن بقوة تنهل بشغف بالغ، تتذوق حلاوة النعمة وتدعو الله أن يكون عهدًا دائمًا متصلًا إلى أن تلقى الله على قوة وأخذ قوي للكتاب، تعاهد أن تزيد الجهد مقابل الفتح، وأن تداوم ما حييت لئلا تموت روحك.

يمضي رمضان ويخرج الفائزون منه بقلوب أتقى وأطهر، يخرج كل واحد منهم بملء وسعه من الهدايا فرحًا جذلًا، ويخرج بجراب ضخم من التقوى والنقاء يكفيه لعام كامل.. بم ستخرج؟ هل ستدع شبح الفتور يأكلك هذه المرة؟ أم ستستمسك بكل ما أوتيت من قوة بالصادقين المفلحين لئلا يفوتك ما بقي من نفحات العشر ليأخذوك بقوة إلى قوة العبادة وإن كنت ضعيفًا لوحدك؟ يا صاح اركض ولو برجل عوجاء وقلب نازف، ففي أي زمن ستجبر إن لم يكن جبرك وقوتك هذه الأيام؟

تقبل الله منك جهادك وحربك الكامنة في صدرك ولا يراها أحد ولا يشم دخانها سواك. أنزل الله عليك السكينة والسلام والأمن الذي جعله لعباده الصالحين حتى يرضيك وتهدأ نفسك ❤️‍🩹. وابقَ على سعيك ما حييت، فالموت انقطاع سعيك ورضاك بالظلمات!

الأربعاء، 22 فبراير 2023

سكاكين التردد..

 تقرأ قراءةً حلوةً عذبة، تقف عند الكلمة الأولى لتعيدها، تتجاوز الآية، تقف في وسط كلمة أخرى لأن الحرف الذي مرت عليه لم يعجبها، تتردد وتكمل، يبدو أنها تقاوم جيشًا من الأفكار التي تقرئها في داخلها وتقول لها أنك لم تلفظي هذا جيدًا وهذا الحرف صفته ضاعت، دون أن تنبس شيختها ببنت شفة! كيف تغلبها الشيخة التي بداخلها وتصب عليها هذا الكم من الأوامر والنواهي؟! المصحف الأخضر نفسه، والطبع نفسه، والأماكن تتشابه، والزمن تغير!


أي مقدار من الصراعات تعيشها تلك التي ترتل ترتيلًا مجودًا لا أحسن منه، وتقاوم سيولًا جارفة من الخواطر؟ تستجيب لها مرة وتتجاهلها مرات، تعيد وتزيد.. كأني بها وهي تقاوم الصخب بالهدوء، مواجهة وجهًا لوجه، دون أن يبدو عليها أثر الصراع كثيرًا.. لكنني أعلم، لأن هذه أنا قبل ست سنين!


بنيتي، إنك إن خضعتِ لما تمليه عليك أفكارك تعبتِ.. ما أحسن تلاوتك! وما أحسنك مجاهدة ساعية! لا تقطعي حبل حسن أدائك بسكاكين ترددك، قولي لنفسك: هلّا سكنتِ وأفسحتِ للأنس والأمان مكانًا في قلبك بدلًا من تضارب الأفكار التي تقول لك أن ذا وذاك خطأ وهو يسري على قلبي عذبًا سلسبيلًا سليمًا حسنًا؟ لا أخفيك أنني كنت مثلك تمامًا، تقرئين وتترددين وتنازعين نفسك وأراني فيكِ جالسةً أصارع نفسي وأنا أقرأ أمام شيختي، ثم ما لبثت السكينة أن فارقتني إلى أن أنزلها الله ومنّ عليّ مرة أخرى، فوجدت الأمان في قلبي، والإتقان في تلاوتي، واكتشفت أن أكبر أعدائي الذي يدمّر تلاوتي هو نفسي المترددة الوجلة! هلّا استجلبنا السكينة بعيدًا عن كل الهواجس؟


يدي بيدك حتى نأخذ الكتاب ونصل بقوة، بتلك القوة التي تنبعث من دواخلنا باستشعار فضل الله علينا ومدده بالسكينة، وبأن أن نثق أكثر؛ لا بأنفسنا الضعيفة فحسب، بل بالله الذي وهبها ولم يقطع عنها إحسانه طرفة عين، فهل ننظر بأعين بصيرتنا إلى فضل الله ونستمسك به بقوة؟ أم نفسح للشيطان أفئدتنا ليغزوها بالتردد والشك والضعف؟ هلّا أخذتُ بيدك لنصل بقوة؟

السبت، 4 فبراير 2023

ابنتي القرآنية شيخة!

 اقترب الختم يا بنيتي! ها قد كبرتِ وزاد اعتمادك على نفسك في تصحيح الأخطاء، بدأتِ تدركين أكثر وتميّزين، ويطمئن عليك قلب أمك أكثر بعدما كان ينقبض بشدة عند كل خطأ، صارت تلاوتك عذبةً سلسةً باردةً على قلبها، وبدأت تثق وتطمئن على عينيك الحذرتين وأنتِ تحدرين بسلاسة ورشاقة، ولا يكاد يتأذى قلبها بلحن إلا وتتداركين فيقع استدراكك بردًا وسلامًا على قلبها.. 


وتكبرين.. وفرح التقدم والإنجاز وإتقان علم التجويد النظري يصنع أعيادًا في قلب شيختك، ومدح الشيخ وصفت لك لا يساوي الدنيا كلها، وحسن تلاوتك تبعد عن فؤادها أذى الدنيا كله.. إلا اللحون غير المستدركة، يظل وقعها شديدًا على قلبها، بل أشدّ من أي وقت مضى..
 هل ستبكين؟ ربما تنهي الجلسة بحزم وتقول أنها ستذهب إلى عرس وتوصيك أن تكوني بخير وتدير ظهرها عنك وتتركك تظنين أنك وحدك، لكن براكين قلبها لن تخبو مهما كثر الراقصون حولها في ذاك العرس.. ربما تلجئين إلى النوم لتخففي عنك حزن إنهاء الجلسة، ومؤكد أنها لن تنام.. 

تظنين أنك وحدك تعانين، وتدركين بعدما تصبحين أمًا قرآنية أن معاناتك أشد، لأنك لا تملكين لسان ابنتك ولا فؤادها ولا تركيزها وليس لك من الأمر شيء! ستدركين أن حزنك المخبأ يحرق أكثر من استيائك البادي عليك وأنت تقرئين وشيختك حازمة معك.. ستدركين يا بنتي أن الأجور المتصلة لا تُدرَك بالمتعة دون أذى كثير، وأن صدرك يجب أن يكون أوسع من السماء لتكوني معلمة قرآن صالحة، ستدركين أنك ستبدئين طريقًا جديدًا من تهذيب نفسك لتكوني أمًا قوية؛ هينة لينة، وحازمة لا تضيّع الحدود. 

بنيتي، خذيها مني.. لا تفرّطي في ميزانك. لا تجلدنّ نفسك حتى تهلك من مجاوزة حد اللوم، ولا تلقي باللوم على إبليس وأنتِ لستِ متسلحة بكل الأسباب المتاحة. أنا أعلم أنك تعبتِ، والله يرى ويسمع، لكنّ حبل الأسباب مع رجاء الله يا ابنتي لا يُترَك ولو بقي منه خيط واحد، لا تقولي أوشك على الانقطاع، تشبثي بذاك الخيط بقوة، فقد يأتي فتح الله لتشبثك به ويبدلك عن الحبل عشرة حبال متينة. لا تقطعي رجاءك ببذل الأسباب ولو دبّ اليأس إلى قلبك، فأنتِ تدعين الله. 

بنيتي، لا يضيع الله عمل عامل يسعى إليه، مهما بلغه الجَهد وتقطعت به السبل، فانتفضي ودعي الضعف واليأس لأهله، فأنتِ القرآن صاحبك الذي يمسح على مواطن ضعفك ويجبرها حتى تصيري قوية بقوته. فهلّا تركتِ الحزن البادي على عينيك وأبدلتِه جهدًا وسعيًا؟ فالحزن لا يوصِل إلا إذا كان محرّكًا لعمل، وإلا فهو يشدك إلى الأرض لتركني إليها، ولا تصلين يا بنتي كذلك!

حبيبتي، كل صبر تتجشمين عناءه سيغدو حلوًا على قلبك بعد أن تتقوي وتقوّي إنسانًا بكتاب الله، كل أذى تلقينه في هذا السبيل يهون حين ترين أمَةً لله تتمسك بالقرآن ليصير منهج حياة لها وثباتًا، كل همٍّ وغمٍّ يندرس ويبقى أثر القرآن، تبقى أبدًا الصدقات الجارية التي تسعين قدر استطاعتك أن تكون سببًا في غرسها لتجني ثمرها ما حييتِ -بل وبعد موتك!-، أفلا تصبرين؟

ما انقطع حبل وصال امتد لله، ربما يشحّ اللقاء، وتشغل الدنيا، وتتكالب الأشواق علينا، لكنّ الوصلَ يا أمّي ممدود ما دام الود في الله ممدودًا، وما دمنا نسعى على الميثاق، كتاب الله وخدمته. 

لله أنتِ، تذكري دومًا ﴿ما أَنزَلنا عَلَيكَ القُرآنَ لِتَشقى﴾، ولا تنسي ما حييتِ ﴿وَمَن جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ العالَمينَ﴾، أنتِ المحتاجة، فأنفقي ولا تملّي، فنحن نملّ والله لا يملّ. إني نذرتكِ لله فكوني على قدر الأمانة، رب فتقبل مني إنك أنت السميع العليم.

الاثنين، 1 أغسطس 2022

ماء بارد على الظمأ.

مضى زمن بعيد مذ سِلتُ في نص، اشتقت فيه إلى نفسي أكثر من شوق أحدكم إلى نصي. لم أستطع الكتابة تارة، وأردت الفيضان ولم أجد وقتًا له حتى جفّ ما وراء السدّ، لكن الله الباقي باقٍ، وإبقاؤه الأشياء رغم قحط الأرض من بقائه، فالحمد لله.


كيف يفيض مورد كاد أن يجف؟ هل يفيضه إلا القرآن وأهله؟ انقطعت عن هذا العالم زمنًا، والحمد لله الذي لم يقطعني عن القرآن وأهله أبدًا. بآية من هنا وهناك، وتصحيح لحرف وحكم، وثبات لحفظ وربو معنى وزهر قلب بعد وقع آية عليه وقع المطر على الجرد. قد يضيع الكاتب إن انقطع عن فيضانه، ولا يضيع المستقي من ريّ القرآن وأهله وإن طال يبسه. 

سفر الحياة لا يمسّك وعثاؤه ولا يقربك ما دام القرآن صاحبك وحبيبك. يتشكل قلبك الأجرد برواء القرآن، تصبح كل أراضي قلبك مخضرة خضرة صلالة في الخريف، يرتوي حد الفيضان، وينظر الناظر إلى قلبك وسلوكك نظر دهشته بشلالات دربات. تنتعش من حيث تشعر ولا تشعر، تصبح في بداية طريقك مع القرآن شخصًا عاديًا، وتمسي مؤمنًا لا تكاد تهزه أية عاصفة. هل تحسبني أبالغ؟ جرّب إن شئت واصحب القرآن وأهله وأنت تنوي الاستسقاء لا التجريب، وذق المن والسلوى! 




كنت -قبل صحبة القرآن- أتشوق إلى الجو اللطيف بعيدًا عن رمضاء مسقط، وإلى الخضرة والماء والحُسن بعيدًا عن جدب سيوحها، إلى المسافرة تلك والمتمتع ذاك، إلى البلد الماطر والفراشات المتطايرة، كانت متعة مؤقتة جدًا، لم تشبع أي شغف داخلي. في صحبة القرآن، سافرت صويحباتي إلى شتى بقاع الأرض مستأنسات بالجمال. لم يسلب قلبي جمال الأرض ولا خضرتها ولا لطف نسمات الهواء الذي يداعبني من صورة أو مقطع مصور، بل سلب لُبّ قلبي أن صور الجمال لم تخلُ من مصحف إحداهن مع جمال الطبيعة الأخاذ، سلب لُبّي أن الصاحب والحبيب كان الأنس والجمال في وسط الجمال، وأن كل الخضرة والجمال جَدبٌ دون آيات. 

ما الداعي لمخالطة كل ذاك المتاع ومزاحمته بالآيات؟ الداعي أن برد الرضا لا ينسكب في قلبك من جمال وزخارف الدنيا مهما احلوّت، وأن مدّ العين إلى المتع وحتى مدّ اليد إليها لن يشبع في داخلك إلا اللمم، بل رزق ربك خير وأبقى. لن تنفع أحسن مدارس العالم في تثبيت هذا المعنى في قلبك ما لم يثبته القرآن. في داخلك ثقب أسود قد يبتلعك إن لم تسدّه بالقرآن، فؤادك هواء مهما حاولت أن تبدو نضِرًا، لن يشبع نهمه إلا آية. 




في حُسنِ أوروبا تتم ابنتي القرآنية حفظ خمسة أسداس القرآن، وفي خضرة صلالة تقرأ لي الأخرى حتى يبرد قلبي وقلبها، ذلك لتعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها بالقرآن إحياءه لأجمل أراضي الدنيا، وأنكم بالقرآن أحسن من حُسن الدنيا كله. 

السبت، 20 نوفمبر 2021

لا يشقى بهم جليسهم.

لا تجد ظلًا يؤويك من شدة رمضاء الحياة، ولا دفئًا يكفيك بردها، إلا قرب أهل القرآن. أولئك الذين رؤيتهم تشرح الصدر وتمسح على القلب، أولئك الذين تلاواتهم معانيها أبلغ في قلبك من أجود القراء، وتدبر معهم يحييك دهرين. أولئك الذين لن تعدو عيناك عنهم وإلا زاغ بصرك وضعفت همتك وسرت إلى الله أعرج مكسورًا، أولئك الذين يجبرون الكسر ويشدون الأزر ويأخذون بيدك وقلبك إلى البرّ طوعًا أو حتى كرهًا، أولئك هم أهل الله، هل تفرط في أهل الله وأنت ترجو قرب الله؟


في صحبتك للقرآن، رحلة النعيم التي تشعر فيها جيدًا بهالات النور من حولك، وتكاد تلمس بيديك اللذة التي لم تجدها في أي شيء آخر. في رحلة تجويد القرآن وإتقانه، في رحلة التدبر التي لا تنتهي إلى آخر نفَس منك، في رحلة حفظ القرآن -المشقة الألذ-، كنت تشعر وأنت تحقق كل نجاح في هؤلاء أنك تعلو على كل انتصارات الحياة الدنيا التي حققتها من قبل، تفوقك في علوم القرآن يسمو على تفوقك في تخصصك، وفرحة عرسك القرآني يوم ختمك تتخلل كل خلية في جسدك، لم تكن كفرحة عرس زواجك. ستدرك في قلبك معنى "هو خير مما يجمعون" حين تتحسس قلبك فتجده سعيدًا في قرب القرآن وأهله أكثر من أي سعادة أخرى في الدنيا. لا يدرك هذا إلا مجرب، فهل تجرب وتذوق؟ ومن ذاق عرف، ومن عرف غرف واغترف واستسقى واستنهل ولم يكتفِ ولم يشبع حتى آخر رمق منه، لا من القرآن ولا من أهله. 


رحلة القرآن لا تخلو من التعب والنصب، ولكن.. ما قيمة التعب مقابل النور الذي تقتبسه؟ ما قيمة كل الأشغال والملاهي التي تركتها لتشتغل بالقرآن وهي لحظية فانية ما تلبث إلا أن تنتهي دون أثر يُذكَر؟ بينما الوقت الذي قضيته مع القرآن خالد إلى يوم القيامة، والقرآن سبقك إلى قبرك ليكون مؤنسًا ورفيقًا حانيًا يوم تفقد الرفقة وتتعود الوحدة -تعوّد الذي لا حيلة له إلا التعوّد (إلا مع القرآن)-. ما قيمة الفناء أمام البقاء؟ ما قيمة الأصحاب الذين سيقولون لك يومًا ما: "انظرونا نقتبس من نوركم" لتقول لهم: "ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا"؟ تلك اللحظة التي يظلم فيها الكون وتنيره أنت بالقرآن الذي بين جنبيك، وأنت فرِح أن حسبتك كانت صحيحة هذه المرة ولم تفرط في حياتك ولم تقل "يا ليتني قدمت لحياتي" لأنك قد قدمت من زاد النور ما يكفيك لتنجو اليوم -إن أخلصت وتقبلك الله-. ما شعورك الآن وأنت تمسك مصحفك بمنأى عن العالم لينجيك يوم لا ينجيك إلا نورك؟


يوم تضيق بك الأرض بما رحبت، تأتي آية لتتردد في داخلك دون سابق طلب أو إنذار لتجدها تمسح على قلبك جبرًا، وتجدها ترشدك وتهديك إلى ما احترت طويلًا دونه، وتجدها تبني شيئًا تجهله في داخلك. في رحلتك مع القرآن، كلما مررت بآية وجدتها تحدث خدشًا في كل مساوئك وأخطائك، ثم مع كثرة الخدوش ومع إطالة احتكاكك بالقرآن، تجد أطباعك السيئة تتصدع وتتحطم واحدًا تلو الآخر، لا تجد في داخلك مكانًا لود ولا سواع ولا يغوث ويعوق ونسر، كل الأوثان -التي ظننت أن النبي صلى الله عليه وسلم هو آخر من هدمها- لكن رأسك مملوء بها، تلك التي تنصاع إليها أكثر مما تنصاع لأي شيء آخر، سيهدمها القرآن إن أطلت صحبته. هو الذي يعلمك ويزكيك ويطهرك ويجعلك إنسانًا أفضل في كل مرة تقرر ألا تفلته من يديك وأن يكون هو النور الذي يدلك على الحياة، يربّيك ويهذّبك في كل مرة تسيء فيها التصرف فلا يردعك أم ولا أب، ينمّيك ويطهرك، ويجعلك ترى وتبصر كل شيء بنظرة واقعية عميقة ذات بُعدين (دنيوي وأخروي)، ويكفّ عنك السطحية المقيتة حين ترى الأشياء بظاهر من الحياة الدنيا وأنت عن العمق غافل! 


في الرحلة التي لن تنتهي ما ثبت قلبك ونبت في هذا النور، أنت بخير عظيم، وفرقان مبين، ونور على نور، أنت عميق النظر بعيده، أنت قويّ عزيز بعزة كتاب الله، أنت رحيم برحمة القرآن للعالمين، أنت إنسان صالح يصير أصلح كل يوم، وأنت مُفلح!

 

الثلاثاء، 1 يونيو 2021

ابنتي القرآنية، حظي العظيم.

أن تكون لديّ ابنة قرآنية، يعني أنني أصبحت أمًا؛ أمومة تشبه تلك الحقيقية الفيزيائية الوراثية، مليئة باللذة. ضحكة من طفل تنسي سهر ليلة، وقد يكون السهاد سيد الموقف أحيانًا إن مسه أذى أو خشيت عليه من الأذى دون أن يمسه، لكنّ قرّة العين به لو يعلم عنها ملوك الدنيا لقاتلوني عليها بالسيوف، تلك السعادة التي لا تشترى بأموال الدنيا كلها، تلك البهجة التي تطغى على كل بهجات الحياة الدنيا وزخارفها، بهجة أي إنجاز تنجزه ابنتي القرآنية وخصوصًا القرآنية منها. أن تكون لدي ابنة قرآنية، يعني أن لديّ نصيبًا من السلوى والأنس والفرح مقسومًا لي، خاصًا بي لا تعصف به شواغل الدنيا ولا تسلبنيه ما دمت ملتزمة به، يكون نصيبي من حياة الروح ملازمًا لا ينفكّ عني مهما تبدّلت مسؤولياتي، تلك الحياة التي لا أبغي عنها حولًا، تقرأ ابنتي القرآن فينسكب على قلبي عذبًا زلالًا، تلامسني كل آية كما لم تلامسني من قبل. أي نعيم أكبر من أن يختارني الله للاستماع إلى القرآن كاملًا بصوتها؟   

أن تكون لديّ طالبة أقرئها الفاتحة إلى الناس، لا يعني لي أن أستمع منها القرآن فأقوّم تفخيمها وغننها ومقادير مدودها، بل يعني لي أن بين يديّ روحًا ونفسًا، أقوّم علاقتها بالقرآن قبل أن أقوّم حروفها، وأدغم العطاء والمسارعة في الخيرات في روحها قبل أن أصحّح إدغاماتها، أن أكون أمًا قرآنية يعني لي أن أصبح كل يوم بعزم أن أكون أفضل وأرقى وأوسع، لأكون أحسن عند الله بأن أكون مثالًا أحسن لابنتي، يعني أن أجاهد لطمس أخطائي وكسلي لئلا ترثه مني فأكون دمارًا لها لا عمارًا، يعني لي أن أسعى لأكون صالحة كي يعتني الله ببناتي ويبعث لهن من يقيمُ جدرهنّ ولو اندرس رسمي. أن أكون أمًا قرآنية، يعني أن أحمل أرواحًا غير روحي على عاتقي، أن أضم قلوبًا صغيرة داخل قلبي أخشى عليها أكثر مما أخشى على قلبي. أن أكون أمًا قرآنية يعني أن أحتوي ابنتي وإن لم أصد عنها أذى الحياة فأطبب جروحها منها قدر إمكاني. أمومتي القرآنية هي حصولي على سند أتكئ عليه لخدمة القرآن إن وهنت، وأن يتصل سندي؛ ذرية ترثني دون كل مواليّ، ويجعلها ربي رضيّة. أمومتي هي اتساع حضني لكل متاعب ابنتي، واتساعها لمتاعبي، وتقاسم شظف العيش والاستظلال من حرّه بظلال القرآن بعيدًا عن لظى الركض المسعور في الحياة. أن أكون أمًا، يعني أن أكون ظلًا وارفًا لابنتي، لا يحجب عنها النور فتذبل، ولا يدعها تحترق في الرمضاء.  أن أكون شيخة وأمًا قرآنية، يعني أن كل همزاتي ولمزاتي غدت مراقَبة ممن يبغي قدوةً حسنةً، ويعني أن أستعيذ بالله ألف مرة من أن أكون قدوة سيئة أو أن أتخلى عن خلق من أخلاق القرآن فتستنكره ابنتي أو أن أُفسِد فيها ولا أصلِح. أن أكون أمًا، يعني أن أُدلّل ابنتي وأتلطف بها لطفًا يغمرها دون أن يغرقها فتفسد وتصبح بذرة عفنة لا تمثل القرآن ولا أهله. أن أكون أمًا، يعني أن أكون حليمة ورفيقة، إلا إن ارتبط الأمر بحدٍ أخلاقي أو تهاون في طلب العلم أو تقليلٍ من قدر القرآن العظيم أو رسالته بغير الأخذ به بقوة، فأقسو لتزدجر وقسوتي محض رحمة لا تشفٍ ولا غل. 

ابنتي هي غرسي الذي أسعى لإصلاحه وتزكيته لتغدو شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. ابنتي هي مشروعي الناجح الذي لا أبالي لو تركت مهامي ومشاغلي لأكرس جهدي عليه. ابنتي هي من أتسع لها ولو ضيّقت علينا الحياة، هي من أتآزر معها لتكون حياتنا قرآنًا. ومهما تلوّنت الحياة واغبرّت، ألبستُها عدسةً قرآنيةً جديدةً توضح لها رؤيتها لئلا تتيه. كلما ارتخى عزمي قرأت عليّ آيات ثم ذكرتني بعدها بالله تذكيرًا يدغدغ قلبي. حظي من القرآن أعظم وأنا أمسك بيدها لنمشي في هداية القرآن للتي هي أقوم، وننظر كيف نقوّم حياتنا به. ابنتي هي عدّتي ليومٍ أقف فيه أمام الله ليسألني عما أبليت فأقول هذه يا رب -اللهم أخلصنا وتقبلنا-. ابنتي هي التي أخاف من أن تُكتَب شهادتي فيها زورًا وأُسأَل فلا أملك جوابًا، هي التي تجعلني في كل يوم أعد جوابًا لسؤال الله عنها. ابنتي هي من أحرص أن تتخلق بأخلاق القرآن وأن تكون مسارعة للخيرات معطاءة لا تسد بابًا لا من الدنيا ولا من تعليم القرآن في وجه أحد، بل تأخذ بيد القوي والضعيف ليستنير بنور الله، وألا ترضى لنفسها أن تستنير وتتنعم وهي تترك الناس يعانون في الظلمات. ابنتي هي التي أعدُّها لتكون نصرًا وفتحًا للأمة لا غثاء كغثاء السيل. 

اللهم تقبّل مني بناتي، واجعل بالقرآن ثباتهن واجعلهن ثباتي، وأخلصهن واصنعهن على عينك فإنني مهما حاولت الإحسان مقصرة ومسيئة، خذ بأيديهن واجعلهن فتحًا عظيمًا لأمتنا، ونصرًا للمسلمين ولبيت المقدس، ودحضًا للأعداء. اللهم أطلق بالحق ألسنتهن، واجعلهن بتمسكهن بالكتاب صالحات مصلحات، واجعلهن شفاعة وصدقة جارية لي إلى يوم الدين. اللهم ارزقني الإحسان إليهن ما حييت ومكّن لي تقويتهن وإنارة قلبي وقلوبهن. اللهم أذقهن من لذائذ القرآن أعظمها، واجعلهن خير مذيقات للناس لذة القرآن. اللهم أنِر بالقرآن أفئدتهن وأرواحهن، واجعلهن عاملات بكل حرف قرأنه من القرآن، واجعل ختماتنا شاهدة لنا لا علينا.